الفايروس القاتل وأمنيات الخلاص الغيبية..د.علاء أبوعامر

الثلاثاء 07 أبريل 2020 03:24 م / بتوقيت القدس +2GMT
الفايروس القاتل وأمنيات الخلاص الغيبية..د.علاء أبوعامر



ما زال فايروس كورونا COVID19 الذي يسميه الأطباء، "القاتل غير المرئي" يفتك بمزيدمن الأجساد البشرية، ومنذ بداية انتشاره رأى فيه بعض السياسيين مؤامرة، وأخرينأعتبروه خطأ مخبرياً، وأعتبره المتشددون من مسلمين ومسيحيين ويهود عقاباً للبشريةعلى انحلالها الخلقي والابتعاد عن الإيمان، والجشع الرأسمالي، وغضب الله على الحكاموالطبقات المتخمة بالمال والسلطة لجورهم وظلمهم.

في المصائب تكثر التحليلات والتفسيرات الغيبية والسياسية، منها ما هو وهم تخيليومنها ما هو أيديولوجي يخدم قضية ما أو شعارات وأهداف حزب ما، حيث تصبحالمصائب عاملاً أو سلاحاً لنشر الفكر المتخيل بين الناس كتفسير خارق للظاهرة، وفيموضوعنا نرى أن التفسير الغيبي ذهب كعادته بين تفسيرين: إما أن الوباء اختبارللمؤمنين أو أنه غضب من الله على الكافرين. طبعا كل مؤمن يُفسر من زاويته.

فعندما كان الفيروس القاتل ما زال في بؤرته الأولى ووهان في جمهورية الصينالشعبية، اعتقد مشايخ بعض الحركات الإسلاموية أن الفايروس سلاح الله في الدفاع عنالمسلمين الأيغور الذين يتعرضون بزعمهم للاضطهاد الديني في تركستان الصينية.

على سبيل المثال دون الداعية المصري أحمد عيسى المعصراوي، رئيس لجنة مراجعةالمصحف الشريف في الأزهر، في صفحته على تويتر "بعد أن عزلت الصين أكثر من 5 ملايين مسلم من الإيغور، اليوم العالم كله يعزل الصين بسبب انتشار وباء كورونا القاتلبين الصينيين وخوفا من انتشار العدوى. (وما ربك بظلام للعبيد)." وعندما انتشر الوباءفي أوروبا وخصوصا إيطاليا اعتبروه عقاباً لإيطاليا وأوروبا على حملاتها الصليبيةفي القرون الوسطى على المسلمين.

 لكن عندما تفشى الفيروس في بلاد المسلمين وأدى إلى إغلاق الحرم المكي ومسجدالرسول والمسجد الأقصى وباقي المساجد في العالم الإسلامي أصبح شعار هؤلاء "ماذافعلنا يا الله لتغلق مساجدنا"؟!

وعلى ما يبدو أن هناك أخباراً (لم نتأكد من صحتها أو زيفها) تفيد أن المملكة العربيةالسعودية الغت مناسك الحج والعمرة لهذا العام خوفاً من الاختلاط الكبير الذي قد يؤديلانتشار الوباء، وتنتظر السلطات السعودية فتوى من مرجعياتها الدينية حول إمكانيةابطال صيام شهر رمضان الفضيل إذ أن العطش مأوى لتكاثر فايروس كورونا حيث أشارإلى ذلك الأطباء وخبراء الأوبئة، أن الفايروس يعيش ويتكاثر في الحلق الجاف، وربماتتخذ المرجعيات الدينية خياراً وسطاً بعدم الغاء الصيام ولكن مع السماح بشرب الماء،والاكتفاء بالصوم عن الطعام وغيره من الشهوات، وفي ذلك رحمة للمؤمنين دون إبطالهذه الشعيرة الهامة من شعائر الإسلام.

تعالت صيحات الكثير من المسلمين وكتبوا منشورات على وسائل التواصل الاجتماعيتلهج بالدعاء إلى الله بقولهم "اللهم إن هذا المرض جند من جنودك تصيب به من تشاءوتصرفه عمن تشاء اللهم اصرفه عنا وعن بيوتنا وعن أهلينا وبلادنا وعن بلاد المسلمينوقنا ونجنا من بلاء برحمتك".

وفي فيديو بثه على حسابه في فيسبوك قال الداعية التونسي المقيم في فرنسا، بشير بنحسن: "فيروس كورونا هو جُند من جنود الله، فاليوم يتساقط الناس بسببه كأنهمحشرات. هم (السلطات الصينية) حاصروا مليون مسلم فإذا بهم محاصرين بأكثر منخمسين مليون شخص بسبب هذا الفيروس، الذي يجتاحهم ولا يجدون له دواء لأنه أمرالله الذي لا راد لحكمه. (ولله جنود السماوات والأرض)، فالله عنده جنود منهم الملائكةوالفيروسات والمصائب، وإذا أراد أن يسلطها على ظالم فلن يرده شيء في الأرض ولا فيالسماء، حيث دمر قوم عاد بالريح وثمود بالصيحة وأغرق قوم فرعون بالماء، وهو الآنينصر الإيغور ضد السلطات الصينية الظالمة بفيروس كورونا."

ولم يقتصر الأمر على هذا الشيخ فقد شاهدت العديد من فيديوهات الدعاة الإسلاميينالتي تؤكد قول الشيخ أن فايروس كورونا جندي من جنود الله أرسله الله عقابا لبعضالبشرية.

وبظني وهو ما أكد عليه بيان نُسب للأزهر الشريف لا يصح وصف الفايروس أنه جنديمن جنود الله؟ حيث يمكن أن يكون الفايروس شيطانا، أي أداة من أدوات الشر صنعهأحدهم مخبريا؟ صنعته دولة أو جهاز مخابرات؟ أو عصابة إجرامية؟ وسيمكن اللهالبشرية من القضاء عليه؟

ويبقى السؤال كيف عرف هؤلاء الشيوخ أو من هم على هداهم أن الفايروس جندي منجنود الله، هل استنطقوه؟ حيث أن ذلك مستحيل المعرفة بالمطلق، إذ أنه جل في علاه يجزمفي التنزيل الحكيم أن جنوده لا يمكن لأحد معرفتهم (وما يعلم جنود ربك إلا هو - المدثر)كيف إذاً لبشر أن يتنبأ أو أن يعرف أن الفايروس جندي أو غير جندي من جنود الله أليسفي ذلك تعدي على جزمه القطعي عز وجل؟! وهرطقة دينية تصل حد الكفر وتقويل الله مالم يقل؟

ثانياً أنه عز وجل يجزم أيضاً أن جنوده لا يُغلبون بل دائماً منصورون (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُٱلْغَٰلِبُونَ - الصافات 173) وعليه إذا كان الفايروس جندي من جنود الله فلا يمكن أن ينتصرعليه العلماء ولن تنجح البشرية في مقاومته وسيتسبب الفايروس في فنائها، وهذابالتأكيد ليس كذلك فقد انتصرت البشرية على العديد من الفايروسات وغلبتها وقضتعليها.

وعليه فإن هؤلاء الذين يريدون بجهلهم أو ظنهم أن يعلوا من قدر الله أمام البشر، فإنتفسيراتهم واقوالهم فيها تجني على الله وتقليل من قدرته ومن جنوده ويجعلون منهقاتلا مجرماً يتسلط على الضعفاء والمرضى والفقراء بينما يترك الفاسدين والمتخلفينينجون بأفعالهم! ومن عبد الله على جهل كأنما عصاه.

الموتى اليوم أغلبهم من كبار السن والاطباء والممرضين؟ هل هؤلاء هم أعداء الله؟!

تفسير المصائب والأوبئة بأنها نصر للمؤمنين على الكافرين من منظور الجماعاتالمتشددة دينياً والتي ترى في الطقوس المظهرية شفاءً للقلوب وقوة في مواجهة الأخطار،على حساب العقل هو أمر عابر للزمان، وقد تكرر في كل الأوقات، كل الكوارث الطبيعية منزلازل وبراكين وأوبئة، وسيول وفيضانات، وعواصف، كلها في عرفهم جنود اللهيستخدمها لتدمير العالم الفاسد وانشاء عالم جديد طاهر نقي مكان السابق البائد، وفيكل الأحوال حتى لو سقط ضحايا من هؤلاء فإنها مشيئة الله، والله أدرى بقلوب العبادوايمانهم، وبالطبع فإن السير خلف هذه الايمانيات يعني عدم الالتزام بإجراءات الوقايةويعني تفشي الوباء لأنه قدر الله على عباده واعدائهم. لذلك هؤلاء لا يعترفون بالسلطاتالحاكمة ولا بقوانينها الوضعية فكل ما يحدث مقدر، ولن يموت إنسان ناقص عمر!

في منتصف الشهر الماضي، ومع بداية انتشار الفيروس المستجدّ في إيران، ظهرت علىمواقع التواصل فيديوهات لزوّار يلعقون الأضرحة المقدسة في مدينتي قم ومشهد، فيتحدٍّ صريح لقرار السلطات الإيرانية للحد من انتشار الوباء؛ ما أدّى إلى اعتقال بعضهم.

والأمر لا يقتصر على المسلمين بل وكذلك على المتدينين اليهود ممن يوصفون بالحريديمأي المتزمتين، فهؤلاء أيضاً وعلى رأسهم وزير الصحة الصهيوني اعتبروا انتشارالفايروس الذي يفتك بالعديد من الشعوب مقدمة لظهور المسيح اليهودي، المسيح ابنداود. (الدجال في التراث الإسلامي والمسيخ في التراث المسيحي).

وقد حاول بعض الحاخامات إيجاد تفسيرات دينية للفيروس المستجد في مقاطع فيديونشروها عبر الشبكة العنكبوتية. وقال الحاخام زامير كوهين الذي يخضع للحجرالصحي "الفيروس نتيجة طبيعية لأن غير اليهود يأكلون أي شيء". وطرح الحاخام مئيرمعزوز تفسيراً آخراً يتعلق بالشذوذ الجنسي إذ يرى "أن الله ينتقم من الشخص الذييقدم على أفعال غير طبيعية."

وذهب الحاخام الناطق بالفرنسية المتشدد رون تشابا بعيداً معتبراً الوباء "علامة علىظهور السيد المسيح اليهودي وهو غير ابن مريم"، مؤكداً بقوله إن "جميع العلامات التيتحذر من مجيء المسيح أصبحت ظاهرة للعيان الآن ومتوفرة، من المأساة أن نظل غيرمبالين".

وفي لبنان أرسلت شابة قالت بأنها رأت في المنام القديس "مار شربل" يطلب منها تقديمالماء والتراب الى مرضى الكورونا، وأثيرت بعدها زوبعة واسعة على السوشال ميديا،وحملات اتهامية متبادلة بين ساخر من دور القديسين في الشفاء من الفيروس المستجد،وبين مدافع شرس عن الدين ودوره في انهاء الكورونا. وقد رفض المشفى استلام التراب.

وارتفع صراخ المصلّين في إحدى الكنائس اللبنانية، احتجاجاً قبل أيام، حين أصرّ الكاهنعلى عدم أداء طقس مناولة القربان كالمعتاد. وفي مصر أشار الانبا رفائيل من دون دليلتاريخي أو مادي، إلى أنه "في أثناء انتشار أوبئة مثل الكوليرا والطاعون لم نسمع فيكل تاريخ الكنيسة أن أشخاصاً ماتوا نتيجة تناول جسد ودم الرب".

في المقابل يسعى العلماء لايجاد لقاح، وتحاول الدول حماية رعاياها من خلال إجراءاتمشددة للحجر الصحي كي تمنع تفشي الوباء، وتحافظ على امكانياتها الصحية التيلم تكن معدة سلفاً لهكذا ظروف.

والغريب أن بعضهم في أوروبا وأميركا أشاد بمقولات تنسب للرسول محمد (ص) حولالاجراءات الوقائية للنجاة من الوباء، وكذلك تستذكر مقولات عمرو بن العاص، وأخرىللعالم المسلم ابن سينا، بينما بعض المتأسلمين المظهريين والحركيين استمروا بخرقالحظر بالتجمع للصلاة أمام المساجد وفي الشوارع وعلى الأسطح، وغيرها في ظاهرةغريبة المقصود منها تحدي السلطات واثبات الوجود السياسي على حساب صحةالمجتمع!

كورونا اربك حسابات المتدينين وغيبياتهم وكذلك حسابات السياسيين واستراتيجياتهم،هناك عالم سيتشكل بعد انحسار الوباء، عالم مختلف عن عالم ما قبله، عالم متعددالأقطاب أبرزها القطب الصيني الذي سيتصدر قائمة الدول الأكثر استفادة مما حصل،فأوروبا الموحدة قد لا تعد موحدة كما كانت، والولايات المتحدة قد تعيش بدايات أزمنة ماقبل التفكك،أما باقي العالم فسيهتم بملف الصحة ويجعله بالمقدمة، سيصبح الأطباء همدرة تاج المجتمعات البشرية، وسيتوارى دعاة وحاخامات وكهنة الخرافات إلى الوراء.