في غرفة العناية المشددة في مستشفى "القديس ماركو" في مدينة "بيرغامو" الايطالية في إقليم لومبارديا شمال إيطالي، يقضي الطبيب الفلسطيني طلال صوفان ساعات عدة من يومه بين ست حالات صعبة مصابة بفيروس "كورونا" المستجد.
"بيرغامو" سجّلت عددا كبيرا من الوفيات والإصابات بالفيروس الفتاك، في ظل ضغط مكثف على مستشفيات المدينة والأطباء العاملين فيها، الذين لم يعد باستطاعتهم إحصاء الحالات التي يتعاملون معها يوميا.
"في كل مرة أرى فيها مريضا وحده بعيدا عن عائلته وأسمعه يتوسل اليّ لانقاذه تدمع عيناي رغما عني،" يقول الطبيب صوفان لـ"وفا".
ويضيف: "من يقضي عمرا بين أحبابه، وتخونه أيام حياته الأخيرة وحيدا وبعيدا عن عائلته، يتمنى رؤيتهم قبل الرحيل الأبدي... إنه الرحيل ما قبل الرحيل فعلا في تلك المدينة المنكوبة بالكورونا".
الطبيب صوفان، المختص بالانعاش والتخدير، يعمل في ذات المستشفى منذ ثلاثين عاما، يمرّ في أصعب وأخطر أيام حياته المهنية والشخصية على الإطلاق خلال هذه الفترة.
ويقول: "المواقف الإنسانية التي نمرّ بها تجعلك تأخذ حذرك وتفكر كثيرا، وتتخذ سبل الوقاية في كل حركة خوفا على من تحبهم، أكثر من خوفك على نفسك".
وفي قسم العناية المشددة، يرقد المرضى الذين يعانون من عجز في التنفس نتيجة للفيروس، ويحتاجون إلى أجهزة تنفس صناعي، ونسبة مفارقتهم للحياة توفق الـ50%، بحسب صوفان.
وجرى تحويل مستشفى "القديس ماركو" إلى مركز خاص لاستقبال المصابين بـ"كورونا"، منذ بداية تفشي الوباء في المدينة بشكل خاص، وإيطاليا بشكل عام. وأغلقت كافة الأقسام التي كانت تستقبل المرضى الآخرين.
وظهرت أول حالات الإصابة بفيروس كورونا في إيطاليا في 31 كانون الثاني 2020، لسائحين صينيين في العاصمة روما، وبعد نحو ثلاثة أسابيع سجّلت 16 حالة جديدة في إقليم لوبارديا في شمال البلاد، قبل أن يتفشى الوباء بصورة كبيرة.
وفي آخر الإحصائيات، وصل عدد الوفيات مساء أمس الأحد إلى 15887، في أعلى معدل وفيات بالوباء على مستوى العالم، ووصل عدد المصابين إلى نحو 129 ألف مصاب، منهم نحو 4 آلاف مصاب في حالة حرجة.
وأفاد ممثل إيطاليا لدى منظمة الصحة العالمية، فالتير ريتشاردي، بأن العدد الحقيقي للمصابين بفيروس كورونا المستجد فى بلاده قد يبلغ نحو 12 مليون شخص، من أصل نحو 60 مليون عدد سكان إيطاليا.
وقال ريتشاردي، الذى يتولى كذلك منصب نائب وزير الصحة الإيطالى، فى مقابلة صحفية، نشرت يوم السبت الماضي: "من الممكن أن 20% من الإيطاليين أصيبوا بالمرض، وحتى الآن نحن رأينا فقط غيضا من فيض".
ويعزو صوفان الأعداد الكبيرة للمصابين الى "عدم أخذ الحكومة الايطالية والشعب الايطالي ذلك على محمل الجد في البداية والاستهتار، لذا وجدنا أنفسنا نقع في عش كورونا ولا مفر من الهروب".
وفي أول عشرة أيام من انتشار الفيروس كانت هناك وسائل حماية بسيطة كما يقول صوفان، لكن وعندما تأزم الوضع بدأت الحكومة بتوعية المواطنين الذين التزموا بدورهم بالحجر خوفا على حياتهم.
أما عن سبب عدد الوفيات الكبير فهو أن الشعب الايطالي لديه عدد كبير من كبار السن، وهم من يموتون بسبب كورونا.
ويوجه صوفان رسالة للشعب الفلسطيني بضرورة الالتزام بالعزل المنزلي، "فلا دواء لكورونا ولا وقاية الا بالعزل المنزلي".
وناشدهم قائلا: "عليكم التخلي عن العلاقات الاجتماعية تماما هذه الفترة، وذلك لحماية أنفسكم وأحبابكم. اتركوا العواطف جانبا وابتعدوا عن آبائكم وأجدادكم لمصلحتهم".
واعتبر صوفان من لا يأخذون الاحتياطات اللازمة وسبل الوقاية، في حال نقلوا العدوى لأحدهم وتوفي، بأنه "جريمة قتل".
ويشدد "لا تكرروا خطأ ايطاليا وجاراتها من الدول الأوروبية...أرجوكم".
وأوصى صوفان الطواقم الطبية الفلسطينية بالاستعداد جيدا في حال أصبحت هناك اصابات تحتاج الى عناية مشددة، فأكثر ما يحتاجون له: أخصائيو تخدير وانعاش، وممرضون مدربون على أجهزة التنفس، اضافة الى الأوكسجين وأدوية للتخدير، وبالتأكيد الكثير من وسائل الحماية والوقاية.
ويقول: "رغم أن ايطاليا التي تحوي عدد أسرّة عاليا داخل عدد كبير من المستشفيات الا أنها تقف حاليا عاجزة عن استقبال المزيد من المرضى، وتستقبل الأعمار الأقل من سبعين عاما فقط، وربما نكون بذلك أشرارا، لكننا نعطي فرصة لأولئك الأصغر سناً لتلقي العلاج اللازم لأن فرصهم بالحياة أكبر".
ولفت صوفان إلى أن الأسبوع الأخير شهد انخفاضا في أعداد المصابين بعد الالتزام بالعزل المنزلي، وتوجيهات الحكومة ووزارة الصحة الايطالية، و"الوعي الذي جاء متأخرا" بخطورة هذا الوباء.
ويشير: علينا الحذر أيضا بعد العودة لحياتنا الطبيعية، وانحسار الفيروس لكي لا نعود الى ذات النقطة في كل مرة.
ويعود الطبيب بعد حمل ثقيل من الألم الجسدي والنفسي في كل يوم الى عائلته بعد أن يأخذ كافة الاحتياطات اللازمة لحماية نفسه وأفراد أسرته السبعة داخل المنزل، لكنه يفضل ألا يزور أحدا ولا يلتقي بأحد حتى ابنته المتزوجة التي تسكن على بعد خمس دقائق من منزله، كما يقول.