قورش العصر وصفقة فاوست.. بقلم: طارق موقدي

السبت 14 مارس 2020 09:52 م / بتوقيت القدس +2GMT
قورش العصر وصفقة فاوست.. بقلم: طارق موقدي



غزة / سما /

في التاريخ القديم كما الحديث، ارتبطت السياسة بالاقتصاد ارتباطا عضويا، فقد كانت وما زالت الثروة مصدرا للسلطة، فالحاكم قد يحصل على الثروة من خلال سلطته، أو أن يحصل على السلطة بواسطة ثروته.

هكذا وصل رجل الأعمال والميلياردير الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ليتربع على عرش الأمبراطورية الأعظم في التاريخ البشري الحديث، بعد أنهيار سور برلين كرمز لنهاية الحرب الباردة.

في الأسطورة الغربية، كان هناك شاب ألماني  فقير لكنه عبقري، يدعى "فاوست" حصل على شهادة الدكتوراه في علم اللاهوت، ثم اتجه لدراسة الكيمياء التي قادته لتحضير الأرواح، حتى قام باستحضار كبير الشياطين السبعة "ميفستوفيليس" ، فعقد معه صفقة تقضي بأن يقوم الشيطان بتلبية طلباته مقابل حصول الشيطان على روحه بعد اربع وعشرون سنة، وهكذا كان، فخلال السنوات المتفق عليها حصل الدكتور فوست على كل ما اشتهاه وتمناه، من مال وعلم ومعرفة، وظفها كلها في الشر، ولما انتهت الفترة جاء الشيطان وأخذ روحه.

هذا ما نسميه بـ "صفقة فاوست"، وبتحليل بسيط يمكننا أن نستنتج أن عالم اللاهوت هذا، قد تخلى عن علومه الدينية وأيمانه بالله، واتبع الشيطان الذي يجسد التمرد والعصيان والتكبر على أوامر الله منذ أن خلق الله آدم وأمر الملائكة أن تسجد له، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( البقرة 34)

لم يكن رفض إبليس إلا رفضا عنصريا، واستعلاءً وتكبراً، مبررا عدم سجوده بنظرته الدونية للإنسان وطبيعة خلقه، فلما سأله الله وهو أعلم:قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف 12).

الصفقة  الفاوستية خاسرة، ببساطة لأن فاوست ظن أن الشيطان سيخدمه خلال فترة العقد، لكن الحقيقة أنه هو من كان يخدم الشيطان، فقد استغل كل مقدراته وقواه وعلمه في الشر، كما أنه دفع حياته مقابل سنوات قليلة يحصل من خلالها على السلطة.

وتظل صفقة فاوست أسطورة، لكن صفقة ترامب حقيقة تمثل فيما يعتقده(هانز مورغنثاو - Hans Joachim Morgenthau) وصاحب نظرية "الواقعية الكلاسيكية"وأحد أهم المرجعيات العالمية في العلاقات الدولية في القرن العشرين، ففي كتابة (Politics Among Nations) "السياسة بين الأمم" يعتبر مورغنثاو أن السياسة الدولية هي مخرجات  لصراع دولي قائم عى هدف الحصول على القوة بأبعادها العسكرية والسياسية والأقتصادية لفرض وحكم الشعوب وإخضاعها.

في التاريخ الأنساني، للأمراطوريات الحق في السيطرة، وهو عرف دولي غير مكتوب، لكن الأمبراطورية الأمريكية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 وحتى اللحظة تحولت إلى وحش بدائي مركّب وهجين، يريد إعادة البشرية إلى عصور همجية، فيسود الموت والقتل والدمار، وتصبح دماء الأبرياء مادة إعلامية رخيصة للفرجة، والحروب بكل أشكالها سببا للوجود.

ترامب اللاهوتي (وإن كان سيء الصيت والسمعة بعيدا عن القيم الدينية التي يدافع عنها المحافظون منالمسيحيين ، فقد ارتبط اسمه بفضائح مع ممثلة الأفلام الإباحية ستورميدانيالز) إلا أنه يحظى بدعم وتأييد الأنجيليين من المسيحيين الصهيونيين الذين يؤمنون أنّ "القدس يجب أن تكون تحت حكم إسرائيل، لتحقيق نبوءات يعتقدون أنّها تمهّد لإعادة بناء الهيكل، فالمسيح لا يعود إلا بعد قيامه".

ففي كنيسة "الملك يسوع الدولية"  توسط ترامب قادة تبشيريين تحت اسم تجمّع "إنجيليون من أجل ترامب".ضم أكثر من ٧ آلاف مسيحي انجيلي في مدينة ميامي فلوريدا، تلا الواعظ غييرمومالدونادو الصلاة مستنجداً بالروح القدس. وطلب في صلاته من الله أن يجعل من ترامبقورش هذا العصر، ويسانده في تحدي إصلاح أميركا.
قورش هذا العصر، من قورش أو كورش هذا، إنه ذلك الملك الفارسي الذي انتصر على البابليين سنة 539 ق.م بمساعدة يهود بابل الذين أتى بهم نبوخذ نصر فيما عرف بالسب البابلي، وكانت مساعدة اليهود لكورش مبنية على اتفاق مع كورش في حال انتصر في الحرب أن يعيدهم إلى القدس، وقد فعل.

من هنا نعلم قصد الواعظ غييرمومالدونادو بالدعاء إلى الله أن يصبح ترامبقورش هذا العصر، وقد فعل.

فعل باعترافه بالقدس عاصمة أبدية لشعب اسرائيل، وانكاره أي حق فلسطيني أو عربي أو حتى مسيحي فيها.، لأن اكتمال سيطرة اسرائيل على القدس هي تمهيد لعودة المسيح، المسيح الذي يعتقد اليهود أنه لم يأتِ بعد، بل أن  الشخص الذي يؤمن به مسيحيو العالم ومنهم ترامب والواعظ مالدونادو، يعتقد اليهود أنه دجال وليس المسيح الحقيقي، بل أنهم هم أنفسهم من تآمروا عليه ووشوا به إلى الرومان ليتخلصوا منه، بالرغم أنه جاء كما يقول: " ما جئت لأهدم الناموس بل جئت ... قالايضا (متى 15/24): " لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"، أي أنه لم يأتِ لتدمير الديانة اليهودية بل جاء مصلحا لخراف بني اسرائيل الضالة من أمثال نتنياهو وغيره من قادة اليمين في عصرنا الحالي.

كل هذا التناقض لا يفسره منطق ولا عقل إلا القول أن أمريكا الترامبية باعت روحها للشيطان الأكبر، ممثلة بصفقة فاوست العصر، وهكذا، ليس من قبيل الصدفة أن تحمل (خطة ترامب للسلام) عنوان "صفقة القرن"

إن أمراطورية ما بعد الأمبريالية التي يحكمها هذا الثور الهائج والذي لا يحتكم لأدنى معايير أخلاقية أو شرعية، فهو منفلت العقال، غوغائي، صلفلا يحترم قانون أو عرف، ويتصرف كرئيس عصابة، يحكمها جنون العظمة، وغرور القوة الثملة.

هذه هي أمريكا اليوم، أمريكا الغاشمة الظالمة المتجبرة، التي تحكم العالم بقوة بطشها، ومن عصى له العصا، أما من أطاع واستسلم، فلا يتوانى ترامب عن اهانته وإذلاله بمناسبة وبدون مناسبة، فيدفع الجزية عن يد، يفعل هذا مع حلفائه وأتباعه أنفسهم.

نهاية، أن هذه الصلف  اليميني المسيحي الصهيوني المدمر، وهذا التسلط والجبروت المفرط الذي تمارسه إدارة ترامب وفريقهعلى شعوب العالم ودوله،  سيكون له عواقب وخيمة على البشرية جمعاء، لأن الشر اذا استوطن في بيت المقدس فاعلم أن العالم كله يعيش هذا الشر، والعكس تماما صحيحا، فإذا عم الأمن والسلام والعدالة في فلسطين، فذلك يعني أن كوكبنا يحكمه العدل والمحبة والسلام العالمي، ولهذا أطلق الله على  فلسطين اسم (الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) فهي ميزان الخير والشر.، فمن يقف ضد شعبها فاعلم أنه يقف في الجانب المظلم من الدنيا، ولن تشرق شمس فلسطين إلا بغياب شمس أمريكا.

يعتقد ترامب وزبانيته، أن القوة هي من تمنحهم الأمن والسلام والازدهار الدائم، لكنهم لا يدركون أن القوة عندما تتحول إلى ظلم  واستبداد فذلك يعني بداية النهاية، فالقوة لا تصنع الحق، بل الحق هو القوة نفسها.