الفساد ظل هو البدء، وظل هو ما يجمع بين كل ما يدور حولنا من حراكات او انتفاضات او ثورات او أي شكل ومسمى آخر للنضال الجماهيري ضده في اكثر من بلد ومنطقة.
وكان الحال كذلك في أزمان سبقت وظروف تبدلت، وبتعبيرات تغيرت.
كان هو الحال في السودان ضد" أبدية" حكم البشير، وكان هو الحال في الجزائر واستمرارية حكم الرجل المريض وانتفاع المحيطين والمتنفذين فيه. وكان هو الحال في لبنان بتفشي الطائفية التي وصلت الى كل مكونات النظام القائم وكل وظائفه، وطالت كل مناحي حياة الناس.
وكان هو الحال في العراق في حالة شبيهة بلبنان مقترنة مع تعبيرات أكثر نفوراً، حين اقترنت الطائفية بفساد مالي وصل ذرى غير مسبوقة، وفساد في إدارات الدولة وصل نخاع الناس وقيمهم ومصالحهم ومعايشهم في بلد نفطي يفترض أنه غني.
والحال في إيران لا يختلف بالجوهر حتى لو اختلف بالافتتاحية وبالتعبيرات.
وايضاً، فإن الحال لا يختلف في دولة الاحتلال، فالفساد يشكل الأساس الأول في المأزق السياسي الذي تعيشه منذ شهور ولا يلوح في الأفق مخرج قريب له.
وفي حال دولة الاحتلال بالذات، فإن منظومة المفاسد تكتسب بعداً إضافياً وأساسياً هو مفسدة احتلالها وتعديها على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وحقوقهم وحرياتهم، بمن فيهم الأهل المقيمون في مناطق 48.
من جهة فإن النضال الجماهيري ضد الفساد يفتح صندوق الشرور والمفاسد على مصراعيه وبكافة تعبيراتها: من المالية والاقتصادية، الى الطائفية والسياسية والتنموية والاجتماعية والخدمية والإدارية، والى الأمن والحريات العامة والى...
ومن جهة أخرى فإن الفساد - المالي والاقتصادي - لا يمكن ان يعيش وينمو وينتشر ويتغول الا وسط منظومة من المفاسد يتبادل معها المصالح والمنافع كما يتبادل معها الحماية. بل ان درجته في سلم أولوية المفاسد قد تتراجع لصالح تقدم أولوية مفاسد أخرى ويتحول استمراره وديمومته واستفزازه الى نتيجة من نتائج منظومة المفاسد، بالذات تلك التي توفر له الحماية ومناخ الاستمرار مثل الطائفية ومثل العسكرة.
مع كل تقدم في عمر الفساد وترسخ اركانه وتعبيراته وتكامل فعل منظومته تصبح محاربته والقضاء عليه أكثر صعوبة وتعقيدا، وتصبح بحاجة الى وقت أطول ونضال أصعب ودرجة أعلى من الإصرار والتحدي. وتصبح بحاجة الى فعل شعبي تؤطره حركة جماهيرية تضم أوسع تمثيل لشرائح المجتمع وقواها المجتمعية والجماهيرية أولاً، ثم السياسية.
وتصبح بحاجة الى رؤية واضحة للهدف العام بكل تكامله وارتباطاته، يعبر عنها برنامج مبسط لكن محدد الأهداف، ومحدد تراتب أولوياتها، ومحدد إمكانية تدرجها عند الضرورة. وتصبح بالتأكيد، بحاجة لقيادة تخرج من بين صفوفها (الحركة الجماهيرية)، وتلتزم بأهدافها وتدافع عنها وتتفاوض من موقع التقيد بها والعمل لتحقيقها، إذا ما برزت ضرورة للتفاوض.
وبالتأكيد فان محاربة الفساد يجب ان تكون سلمية في كل نشاطاتها وتعبيراتها وحريصة على السلم الأهلي المجتمعي بأعلى الدرجات.
وبالتأكيد أيضاً، فإن قوى الفساد على تنوعها لن تسلم وترفع الراية البيضاء بكرم اخلاق وحرص على البلاد والعباد والا ما كانت قوى فساد. بل هي ستقاوم بكل الأساليب والوسائل والحيل والادعاءات والمناورات، وبالقوة عند الاقتضاء.
المشهد القائم أمامنا يؤشر الى أكثر من اسلوب ومناورة ووسيلة تتبعها قوى الفساد، ومعظمها يسعى للاستفادة من عدم تبلور قيادة للحركة الجماهيرية:
في إيران مثلاً، هناك اتهام مباشر للحركة الجماهيرية بأنها مدفوعة ومحركة من قوى خارجية معادية، ولا وسيلة للتعامل معها الا التصدي بالقوة والقمع، ولو ادى ذلك الى دم وضحايا.
في العراق، هناك مسعى لاحتواء الحركة الجماهيرية بنثر وعود كثيرة يتطاول زمانها بالمحاسبة والتغيير وتبقى في خانة الوعود لا تغادرها الا في اقل القليل واقل الأهمية. وتبقى مترافقة مع درجة من القوة والعنف مع محاولات لا تنجح غالباً لضبطها تحت سقف معين.
في لبنان، محاولة قوى الفساد الأولى كانت التسلل الى الحركة الجماهيرية والى قيادتها مستفيدة من عدم تبلور قيادة لها. وأمام عدم تحقيقها النجاح المطلوب، تبدو الأمور وكأن هناك رهاناً على كسب الوقت وعلى تعب او ملل يصيب الحركة، وأيضاً على قسمة الحركة الجماهيرية. وتطور الأمر في الأيام الأخيرة الى السعي لخلق تناقض وصدام بين القوى الشعبية على خلفية الولاءات التنظيمية والتي تكتسب مسحة طائفية مذهبية منذرة بتدهور يستحضر المرارات السابقة.
في السودان، تبدو الحركة الجماهيرية هي الأكثر نجاحاً نسبياً حين تمكنت من تشكيل قيادة لها من بين صفوفها ونجحت في التوصل الى اتفاق مع أهل الحكم القائم تقاسمت معهم السلطات. وهذا ما وضع البلاد على طريق تطور طبيعي سلمي مفتوح الآفاق على كل الاحتمالات.
اما في الجزائر فرغم استمراريتها لشهور طويلة ونجاحها في الحفاظ على سلميتها، إلا انها لم تنجح في تشكيل قيادة لها من بين صفوفها، ونجحت فقط قي الاتفاق على ضرورة التخلص من كل رموز الحكم السابق وخروجهم الكلي من الحياة السياسية، لكن دون ان تبلور آلية محددة لتحقيق ذلك.
في كل الحالات، فإن قوى الفساد تستفيد في مقاومتها للحركة الجماهيرية من غياب قيادة تفرزها هذه الحركة من بين صفوفها وتبلور لها رؤية موحدة ومطالب محددة وآلية لتنفيذها.