اتأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في برنامج "التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات" - الدفعة الخامسة 2018-2019.
مقدمة
أدى مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول التركية، بتاريخ 2/10/2018، إلى موجة انتقادات للمملكة العربية السعودية.[1]
تباينت الروايات السعودية حول مقتل خاشقجي، الذي انتقد سياسات بلاده من خلال كتاباته في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، بداية بإنكار الحدث، وانتهاءً بالاعتراف بمقتله خلال شجار لإقناعه بالعودة إلى السعودية.[2]
مع أن تورط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كان دائمًا يشكل تساؤلًا مع كل رواية تصدرها السعودية للعالم، إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سعى إلى احتواء الأزمة، رغم وجود العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي المعارضين لدعم السعودية، الذين يشيرون إلى تورط ابن سلمان بجريمة القتل.
تباينت ردود الفعل الدولية، قبل الاعتراف بجريمة القتل وبعدها، ويبدو أن إصرار تركيا على تدويل القضية لم ينجح في "لجم" دعم الإدارة الأميركية للسعودية.
خفت الاهتمام الإعلامي والدولي بالقضية قبل أن تنشر صحيفة الديلي تلغراف، بتاريخ 8/2/2019، تقريرًا حول اعتراض وكالة الاستخبارات الأميركية مكالمة هاتفية تفيد أن ابن سلمان قال لأحد مساعديه قبل عام من جريمة القتل بأنه سيستخدم "رصاصة" ضد خاشقجي.[3] ولكن لا يبدو أنّ هذه القضية ستؤثر بشكل ملموس على العلاقات السعودية الأميركية، التي يلعب ابن سلمان، دورًا كبيرًا فيها، بحكم علاقته الوثيقة بالإدارة الأميركية.
قد لا تتأثر العلاقات السياسية والاقتصادية التي تربط البلدين بسبب حادثة الاغتيال، ولكن المعارضة الأميركية الداخلية لسياسات ترامب قد تؤثر على مجرى الدعم للسعودية في حربها على اليمن، وعلى السياسات التي تنتهجها ضد النشطاء والمعارضين السعوديين، وتنتج تيارًا جديدًا قد يؤدي إلى تقليص الدعم الأميركي للسعودية ولولي عهدها.
أزمة ما بعد الجريمة
هدد ترامب، بتاريخ 13/10/2018، السعودية بتطبيق"عقوبات صارمة" في حال ثبات تورط مسؤولين في الرياض بعملية القتل[4]. وبعد يومين صرح بأنه تحدث إلى الملك سلمان الذي نفى علمه بعملية القتل.[5] وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن جاريد كوشنير، صهر الرئيس والمستشار الخاص، عرض على ولي العهد توجيهات بشأن "كيفية مواجهة العاصفة" بعد وفاة خاشقجي، وذلك خلال مكالمة هاتفية بينهما، بتاريخ 10/11/2018، للاستعلام عن مصير الصحفي وطريقة قتله.[6]
رحب ترامب بالبيان السعودي حول أن الجريمة حصلت من دون تخطيط، بل نتيجة "عراك وشجار وتقييد"، واعتبره "خطوة جيدة وكبيرة ذات مصداقية".[7] في المقابل، اعترضت الدولة التركية على الرواية السعودية، وأكدت أن الجريمة "مخطط لها من قبل"، وأن أوامر قتل خاشقجي صدرت من جهات عليا. في حين قالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل أن الأدلة "غير كافية"، واعتبرت العديد من الدول أن الرواية السعودية متناقضة.[8]
أعلنت وكالة الاستخبارات الأميركية في تقرير لها بتاريخ 16/11/2018 بأن أوامر قد صدرت من ولي العهد بإرجاع خاشقجي إلى السعودية، واستخلص التقرير أنه قد يكون محمد بن سلمان أمر بعملية القتل.[9] وبالرغم من هذا التقرير، أصدر البيت الأبيض، بتاريخ 22/11/2018، بيانًا صرح فيه "قد لا نعرف أبدًا كل الحقائق المحيطة بالقتل ... من المحتمل جدًا أن يكون ولي العهد على علم بهذا الحدث المأساوي، ربما فعله وربما لم يفعل".[10] واستنادًا إلى قانون غلوبال ماغنيتسكي الذي أصدرته الولايات المتحدة في العام 2012[11]، أقر معاقبة 17 سعوديًا ثبتَ تورطهم بجريمة قتل خاشقجي، ونشرت أسماؤهم على موقع وزارة الخارجية الأميركية بصفتهم منتهكين لحقوق الإنسان، من خلال تجميد حساباتهم المصرفية، ومنعهم من دخول الولايات المتحدة.[12] وبدوره، فرض الاتحاد الأوروبي حظر سفر على 18 سعوديًا لم تنشر أسماؤهم بسبب تورطهم في جريمة القتل.[13]
لم يكن هذا توجه مجلس الشيوخ الأميركي الذي سعى، بتاريخ 5/12/2018، إلى تبني مشروع قانون يحَمّل ولي العهد مسؤولية الجريمة ويطالب بمحاسبة المتورطين فيها، بالإضافة إلى مشروع قرار لإيقاف الدعم الأميركي للسعودية في حرب اليمن.
يؤكد مجلس الشيوخ على أحقيته باتخاذ قرار بشأن مسائل الحرب والسلام في حال أن الرئيس لا يستخدم سلطاته بشكل يمنع الولايات المتحدة من التورط في نزاع مسلح، وينص مشروع القانون على "أن ولي العهد محمد بن سلمان هو المسؤول عن المساهمة في الأزمة الإنسانية في اليمن، والوقوف ضد قرار حول حصار قطر، وسجن وتعذيب المنشقين والنشطاء داخل السعودية، إضافة إلى استخدام القوة لترهيب الخصوم، والقتل الوحشي وغير المبرر بحق الصحفي جمال خاشقجي".[14] في المقابل، هدد الرئيس ترامب باستخدام الفيتو ضد أية قرارات تهدد العلاقات السعودية الأميركية.[15]
بتاريخ 8/2/2019، عاد التوتر بين مجلس الشيوخ وترامب الذي يصر على دعم السعودية، ويرفض طلب لجنة العلاقات الدولية بالإفصاح عن ما إذا كان ولي العهد متورطًا بالجريمة. وعبر العديد من أعضاء مجلس الشيوخ عن استيائهم لهذا الرفض وعدم الاستجابة لمطالبهم. وعلق السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز على رفض ترامب قائلًا "حان الوقت لإعادة تقييم العلاقة مع السعودية والائتلاف الذي تقوده ... لأن إدارة ترامب لا تنوي الإصرار على المساءلة الكاملة عن قتلة خاشقجي، فقد حان الوقت لكي يتدخل الكونغرس ويفرض عواقب حقيقية لإعادة النظر جذريًا في علاقتنا بالسعودية، ومع التحالف الذي تقوده في اليمن ".[16]
أما السعودية، فنفت منذ بداية الحدث علم ولي العهد بعملية القتل، حيث صرح عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، بتاريخ 21/10/2018: "هذه عملية مارقة، ولا أوامر من ولي العهد بقتل خاشقجي".[17]
وجاء رد السعودية على مشروع قرار الكونجرس غير الملزم بالرفض، باعتباره "تدخلًا سافرًا" في شؤونها الداخلية، مع تأكيدها الحفاظ على علاقتها مع الولايات المتحدة التي سعت لبنائها على مدى سنوات.[18]
العلاقات الأميركية السعودية
تعتبر السعودية من أهم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وتعتبر الإدارة الأميركية ولي العهد السعودي جزءًا لا يتجزأ من تحقيق سياستها في الشرق الأوسط، التي تتمثل في السعي لمحاربة الإرهاب وإعادة الإستقرار إلى المنطقة، بالإضافة إلى دعم السعودية الموازية لايران في المنطقة، التي تعد العدو الأساسي لحليفتها إسرائيل.[19] كما تعد السعودية عاملًا أساسيًا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي الغربي، من خلال الحفاظ على استقرار الأسعار النفطية، والعمل على إنتاج مخزون نفطي يغطي احتياجات الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، يعد السوق السعودي من أهم أسواق البضائع والأسلحة الأميركية، إذ شكلت قيمة الواردات الأميركية للسعودية ما نسبته 12.4% من إجمالي وارداتها للعام 2018.[20]
إن العلاقة الاقتصادية الأميركية السعودية قد تؤدي إلى حل العديد من الصراعات في الشرق الأوسط، وتعد جزءًا مهمًا من الحل الأمني والسياسي للقضايا العالقة. لذلك احتفظت السعودية بمكانتها لدى الإدارات الأميركية منذ ولاية الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان (1945-1953).[21] كما أبرمت المملكة العديد من الصفقات التجارية وصفقات الأسلحة مع الولايات المتحدة، وقد صرح ترامب بأهمية هذه الصفقات، بقوله بتاريخ 22/11/2018، "وافقت المملكة على إنفاق واستثمار 450 مليار دولار في الولايات المتحدة. هذا هو مبلغ قياسي من المال. سيخلق مئات الآلاف من فرص العمل، وتنمية اقتصادية هائلة وثروة إضافية كبيرة للولايات المتحدة".[22]
تشكل حادثة القتل نقطة تحدي لمجرى العلاقات السعودية الأميركية، وخصوصًا مع برنامج ولي العهد السعودي "الإصلاحي" الذي اعتبره ترامب يخدم المصالح الأميركية، إلا ان سياساته تثير انتقادات دولية مختلفة. فعلى سبيل المثال يلخصها جوناثان ماركو، مراسل الشؤون الديبلوماسية والدفاع في قناة بي بي سي، بقوله "إن محمد بن سلمان مسؤول عن جهود عزل دولة قطر، وحادث الاختطاف المؤقت لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، ونزاع ديبلوماسي لم يكن له داع مع كندا، بشأن حقوق الإنسان، والأهم الحرب على اليمن التي لا تبدو لها نهاية".[23]
ما زالت قضية مقتل خاشقجي تعزز معارضة مجلس الشيوخ لحرب اليمن، والمطالبة بإيقاف تجاوزات السعودية والمساهمة في تسليحها. ووعد المشرعون بإعادة فتح مشروع قرار دعم الولايات المتحدة للحرب على اليمن مجددًا، وهذا ما قام به بعض الجمهوريين، بتاريخ 30/1/2019، حيث قدموا نسخة محدثة من مشروع القرار.[24] كما قام مجلس النواب، بتاريخ 14/2/2019، بالتصويت بأغلبية مع مشروع القرار الذي يتوقع أن يتم التصويت عليه خلال 30 يومًا من قبل مجلس الشيوخ.[25]
خاتمة
يؤكد الرئيس الأميركي بشكل دائم أهمية السعودية كحليف أساسي، وأن العلاقات بين البلدين لن تتأثر بحادثة القتل، بالرغم من تصريحات مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، بتاريخ 4/2/2019، بأن بعض الدول تتغاضى عن تحقيق العدالة، مضيفًا "تركيا تعرف من قتل خاشقجي وكيف، أمّا البلدان التي تعطي للجميع درسًا في حقوق الإنسان، فتحاول اليوم التستر على جريمة قتل خاشقجي.[26]
ستظل قضية القتل تشكل ضغطًا على الولايات المتحدة والسعودية لزيادة الرقابة لإغلاق قضية القتل بمعاقبة مرتكبي الجريمة، وستقوم الولايات المتحدة بدعم السعودية للتخلص من تبعات هذه الجريمة، وقد يكون هناك فرصة جديدة للولايات المتحدة للحصول على أموال صفقات جديدة من السعودية.
قد يستمر الدعم الأميركي للسعودية من منطلق المصالح الأميركية وأهمية السعودية إستراتيجيًا، ولكن ستكون قضية القتل المحرك لمعارضة سياسات السعودية في اليمن، وخصوصًا مع موافقة مجلس النواب على القرار لإيقاف الدعم الأميركي لحرب اليمن، الذي يعده بعض المشرعين بأنه "غير دستوري".[27]
قد ينتج عن تفعيل القرار ضد حرب اليمن قرارات حاسمة ضاغطة على السعودية وتغيير كافة السياسات الداعمة لها، وخصوصًا مع مطالب المجلس بمراجعة نتائج عقاب المتورطين في القضية، خصوصًا مع عدم الكشف عن جثة خاشقجي. وهذا كله مرهون بما سيؤول إليه مشروع قرار مجلس النواب الأميركي وموافقة مجلس الشيوخ عليه، وبما سيكشف عنه التحقيق بقضية مقتل خاشقجي الذي تقوم به الأمم المتحدة في تركيا خلال شهر شباط 2019[28]، الذي قد يحمل حقائق جديدة قد تستدعي من الولايات المتحدة التراجع عن وتيرة الدعم اللامتناهي لولي العهد السعودي.
الهوامش
[1] السعودية تؤكد رسميًا وفاة خاشقجي بشجار في قنصليتها بإسطنبول، وتعلن توقيف 18 شخصًا في إطار التحقيق، روسيا اليوم، 20/10/2018. bit.ly/2CX3lMr
[2] Saudi Arabia acknowledges Jamal Khashoggi died in consulate, says 18 detained, NBC, 20/10/2018. nbcnews.to/2CtGCGE
[3] Mohammed bin Salman 'said Khashoggi should get a bullet, The Daily Mail, 8/2/2019. bit.ly/2GEfXsR
[4] Trump says it appears Khashoggi is dead and consequences could be 'severe’, The Guardian, 13/10/2018. bit.ly/2S1Unlk
[5] Trump twitter account, @realdownaldtrump, 13-15/10/2018.www.trumptwitterarchive.com/archive
[6] The wooing of Jared Kushner: How the Saudis got a freind in the white house, The New York Times, 8/12/2018. nyti.ms/2E6G5Lz
[7] مقتل خاشقجي .. البيان الكامل لنتائج التحقيقات، سكاي نيوز عربية، 15/11/2018.bit.ly/2zUuN9n
[8] مقتل جمال خاشقجي: ترامب "غير راضٍ" عن رواية السعودية بشأن وفاة الصحفي في قنصلية بلاده في إسطنبول، بي بي سي عربي، 21/10/2018. bbc.in/2PHbrvi
[9] C.I.A. Concludes That Saudi Crown Prince Ordered Khashoggi Killed, The New York Times, 16/11/2018. nyti.ms/2FBuwhY
[10] Statement from President Donald J. Trump on Standing with Saudi Arabia, The White House, 20/11/2018. bit.ly/2TwSHRc
[11] What is the Global Magnitsky Act, and why are U.S. senators invoking this on Saudi Arabia?, The Washington Post, 12/10/2018.wapo.st/2Iii2Nx
أصدرت الولايات المتحدة قانون غلوبال ماغنيتسكي، في العام 2012، لفرض عقوبات على بعض القادة الروس الذين تسببوا بمقتل سيرجي ماغنيتسكي في روسيا، من خلال منعهم من استخدام النظام المصرفي، ومنعهم من دخول الولايات المتحدة. تحول هذا القانون في العام 2016 إلى قانون يخول الولايات المتحدة عقاب منتهكي حقوق الإنسان في العالم، وتجميد أصول مرتكبي الانتهاكات وحظر دخولهم إلى أراضيها.
[12] Global Magnitsky Sanctions on Individuals Involved in the Killing of Jamal Khashoggi, The U.S. department of state, 15/11/2018.bit.ly/2FQWeFA
[13] European travel ban imposed on 18 Saudis over Khashoggi killing, The Guardian, 18/11/2018. bit.ly/2R0G3Zq
[14] Congress official website, S.Res.714 — 115th Congress (2017-2018). 12/05/2018. bit.ly/2FFtxeY
[15] مجلس الشيوخ الأميركي يحمل محمد بن سلمان مسؤولية قتل جمال خاشقجي، بي بي سي، 14/12/2018. bbc.in/2PS9NWX
[16] White House refuses to meet Congress' deadline on Khashoggi killing, CNN, 9/2/2019. cnn.it/2TFGoSj
[17] Bret Baier grills Saudi foreign minister over death of US-based columnist in consulate, Fox News, 21/10/2018. fxn.ws/2CxJAtO
[18] 5 لاءات سعودية تصفع مجلس الشيوخ الأميركي، صحيفة عكاظ، 18/12/2018.bit.ly/2SUTKt4
[19] هل تضعف قمم ترامب في السعودية نفوذ إيران في المنطقة؟، بي بي سي، 21/5/2017.bbc.in/2QMV70I
[20] فائض التجارة السعودية يقفز 160% في يونيو 2018، سي إن إن بالعربية، 14/8/2018.cnn.it/2UG5bFZ
[21] ريتشارد بريس، أميركا والسعودية تكامل الحاضر .. تنافر المستقبل، ترجمة سعد هجرس، مكتبة الكونغرس الأميركي 1981. bit.ly/2PYnovE
[22] Statement from President Trump, Ibid.
[23] مقتل جمال خاشقجي: هل يمكن أن تعيد القضية تشكيل الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، بي بي سي، 27/10/2018. bbc.in/2V56e3l
[24] Inspired by Jamal Khashoggi's killing, lawmakers renew fight to defy Trump and end US support for Saudi Arabia in Yemen, The Business Insider, 31/1/2019. read.bi/2GftdUC
[25] "النواب الأميركي" يوافق على قرار وقف دعم السعودية بحرب اليمن .. ماذا يعني ذلك لترامب؟، سي إن إن، 14/2/2019. cnn.it/2BxOO7q
[26] تركيا: الدول الغربية تحاول التستر على جريمة خاشقجي مقابل صفقات السلاح، سي إن إن، 4/2/2019. cnn.it/2DWbPlV
[27] Inspired by Jamal Khashoggi's killing, Ibid.
[28] United Nations launches investigation into Saudi journalist Jamal Khashoggi's murder, ABC, 26/1/2019. ab.co/2ROM0ge
صدرت عن مركز مسارات