منذ أقيم الكيان الصهيوني في عام 48 وحتى حرب الـ 67، لم تكن مسألة إقامة علاقات طبيعية بين الكيان والدول العربية تحظى بأية قيمة أو وزن في سياساتها الخارجية وخطابها السياسي، لأن الأمر في حينه كان أشبه بالمستحيل، حيث كان الصراع الوجودي ولاءات الخرطوم هي الأساس، وشكلت القاعده الأولى والرئيسية التي تنظم الصراع بين العرب، دولًا وشعوبًا، مع الكيان الصهيوني. بيد أن هذا الأمر شهد تغيرًا تدريجيًا بطيئًا بعد حرب الـ 67، على الأقل من جانب الكيان الصهيوني، الذي اعتقد بأن هزيمة الدول العربية واحتلاله للاراضي التي احتلها عام 67 يمكن أن تشكل مدخلًا لمفاوضات تفضي إلى اعتراف وسلام وتطبيع للعلاقات.
تعزز هذا الاتجاه بعد زيارة السادات للقدس المحتلة، وقد ترجمت تعبيرات ذلك في الخطابات السياسية وبرامج الأحزاب، وتطور الأمر لاحقًا إلى أن أصبح التطبيع وإقامة علاقات مع الدول العربية بمثابة الجائزة الأهم والهدف الاستراتيجي الذي يسعى إليه الكيان، حتى إن أحد أهم مسوغات قبولهم لاتفاق أوسلو وإعلانهم القبول بمبدأ حل الدولتين أنه يعتبر ممرًا إجباريًا لابدّ منه، حيث إن حل القضية الفلسطينيه شرط أساسي للدول العربية للقبول بإقامة علاقات رسمية مع الكيان، وقد جاء هذا الشرط واضحًا في مبادرة السلام العربية، وقد فهمت قيادات الكيان بشكل عميق أنه لا أمل في تطبيع العلاقات مع العرب بدون تسوية القضية الفلسطينية، وأكثر المتفائلين من الصهاينة و"المعتدلين" من العرب اعتبروا ان التقدم على مسار التسوية قد يكون كافيًا للبدء بالحديث عن إقامة علاقات عربية مع الكيان.
وحده نتنياهو تقريبًا، ومعه متشددي "الليكود" وممثلي المستوطنين، رفضوا هذا التوجه كليًا وأصروا على عدم الربط بين القضية الفلسطينية والعلاقات مع الدول العربية، وفي تحدٍ واضح؛ أصر نتنياهو على أن يقلب الهرم على رأسه بأن تكون العلاقات مع العرب أولًا لتشكل مدخلًا وعنصرًا ضاغطًا على الفلسطينيين، وتبنى خطابًا سياسيًا يتناقض تمامًا مع الخطاب الإقليمي والدولي الذي ربط تاريخيًا بين حل القضية الفلسطينية والاستقرار في الشرق الأوسط، فثابر نتنياهو في معظم خطاباته السياسية لدحض أى ربط بين القضية الفلسطينة واستقرار المنطقة، مؤكدًا على أن مشاكل وأزمات المنطقة ترجع لأسباب بنيوية اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية ودينية، وأن كيانه في هذه الإشكالات يعتبر جزءًا من الحل وليس جزءًا من المشكلة.
وفي السنوات الأخيرة، عزف نتنياهو كثيرًا على نغمة العداء الإيراني والنفوذ الإيراني في الدول العربية، والعدو المشترك للعرب وللكيان، وعلى نغمة "مكافحة الإرهاب" والتطرف الديني والصراع الشيعي - السني. وللأسف، فقد وجد هذا الخطاب التحريضي بعض الآذان الصاغية لدى بعض العرب، لا سيما في ظل تصاعد ظاهرة "داعش" وتفاقم الأزمة السورية، وتصاعد ما سمي بالصراع الشيعي - السني وتشكيل الائتلافات والمحاور، وقد اتخذ الكيان من الصراع الخليجي - الإيراني ومن نشاطات "داعش" مدخلًا مهمًا للتطبيع مع العرب.
وقد شهد عام 2018 ذروة الانفتاح العربي على الكيان، حتى بات الأمر يشكل تهديدًا حقيقيًا على القضية الفلسطينية، وخيل لنتنياهو أنه قاب قوسين أو أدنى من قطف ثمرة التطبيع العربي، حتى أنه وفي خطابه قبل أيام في مؤتمر اقتصاد رجال الأعمال، الذي نظمته صحيفة "غلوبس" الاقتصادية، كان يتحدث مزهوًا ومفاخرًا بإنجازاته على مستوى التطبيع، وموجهًا انتقاداته اللاذعة والساخرة من خصومه الذين ربطوا أي تقدم على مسار التطبيع بالتقدم على مسار التسوية مع الفلسطينيين، متسائلًا على سبيل السخرية "هل حدث هذا لأننا انسحبنا من الضفة؟"، ومجيبًا بأن العرب يطبّعون لأن إسرائيل قوية، ولأنهم يحتاجون قدراتها واقتصادها وتكنولوجيتها وعلمها، ولأن إيران تهددهم.
بغض النظر عن وجود مستوى من العلاقات السرية بين العرب والكيان، وفي معظمها تتعلق بالجوانب الأمنية، وعلاقات علنية ونوايا معلنة أو معلقة لاقامة علاقات؛ فإن نتنياهو ووزراءه ومؤسساته معنيون بشكل كبير للمبالغة في عرض وتسريب مثل هذه العلاقات لأسباب سياسية وداخلية، فنتياهو هنا ينتصر لموقفه الأيديولوجي السياسي بأن القضية الفلسطينية لم تعد جزءًا من الثوابت العربية، ولم يعد حلها مدخلًا للوصول إلى العرب، وأن كيانه بإمكانه أن يحتفظ بالاحتلال وأن يتمتع بعلاقات طبيعية مع العرب، وأن العلاقات العربية مع الكيان ستشكل عامل ضغط على الفلسطينيين.
ولكن، هل حقًا نجح نتنياهو في إرساء أساسات التطبيع وتحويله إلى أمر واقع لا رجعة عنه، وأن القضية الفلسطينية لم تعد تشكل ثابتًا من الثوابت العربية؟ نحن لا نعتقد ذلك، ونعتقد بأن ظروفًا استثنائية عابرة أفضت إلى مثل هذا الانفتاح، لكنه انفتاح محدد بسقف وحدود معينة، ولا يمكنه أن يشكل تهديدًا حقيقيًا على القضية الفلسطينية، القضية التي لا زالت وستظل تشكل إجماعًا للجماهير العربية، وسيظل العرب عمقًا قوميًا لفلسطين، والأنظمه العربية - سواء بسبب ارتباطها بفلسطين أو خوفًا من شعوبها - ستظل تحتفظ بعلاقات الصراع الرسمية على الأقل مع الكيان.
ومن الأهمية هنا أن نقتبس ما كتبه اثنيْن من الكتاب الصهاينة الكبار، سمدار بيري (صحفية كبيرة في "يديعوت") وعاموس جلعاد (جنرال شغل لسنوات طويلة رئيس القسم السياسي الأمني في وزارة الحرب الصهيونية). كتبت بيري "تلقت المساعي السرية لتحسين العلاقات بين إسرائيل والسعودية ضربة قاضية، وعمليًا جُمدت. موجة الغضب على قتل خاشقجي دفعت ابن سلمان للتخلي عن خطوات شجاعة في السياسة الخارجية، وعلى رأسها تعزيز العلاقة مع إسرائيل"، وتقتبس عن مسؤول سعودي أن "تعزيز العلاقات مع إسرائيل من شأنه أن يخلق عاصفة أخرى في العالم العربي".
وكتب جلعاد أن التطبيع مع العرب يواجه تحديات كبيرة، وفي مقدمتها تحدي الشعوب والنخب وخوف الأنظمة، ويؤكد على أن التطبيع في ظل مفاوضات التسوية كان كبيرًا مقارنة بما هو عليه اليوم، ويستذكر حفاوة الاستقبال وفتح الملاحق التجارية والدبلوماسية، ويستنتج ان التطبيع سيظل يصطدم بالسقف الزجاجي الفلسطيني، وأن المصالح المتعمقة بين الكيان والدول العربية السنية لن تسمح بالقفز عن تسوية القضية الفلسطينية، ويؤكد أنه لا أهمية لما يقوله العرب في الغرف المغلقة، فالأهم هو ما يصرحون به ويعلنونه.