الموافقة السريعة لإسرائيل على الاستجابة لطلب الوسطاء بوقف إطلاق النار، بعد ضرب حافلة نقل الجنود بصاروخ الكورنيت، وإطلاق قرابة الـ 500 قذيفة وصاروخ، وإلحاق خسائر بشرية ومادية بمدينة عسقلان، وبعد تهديدات ومداولات على مدار ساعات طويلة استغرقها أطول اجتماع كابينت؛ كلّ ذلك جعل موافقتهم السريعة وكأنها لغز يخفي شيئًا أو مخططًا كبيرًا، فالكثير من الإسرائيليين صُدم من القرار، وبعض السياسيين الإسرائيليين والكتاب حاول أن يروّج أن القرار يخفي أسرارًا لا يمكن تداولها والتصريح بها للعامة، أما الجمهور في قطاع غزة - الذي يبدو أنه لم يكن يتوقع ردة الفعل الإسرائيلية، التي اعتبرها ضعيفة - فقدّر بأن ثمة شيئًا مريبًا، وأن الاحتلال يخطط لعمل غادر كبير.
نتنياهو شخصيًا (الذي قدّر بأن ليبرمان سيعلن استقالته في اليوم التالي) سارع إلى حضور مراسم إحياء ذكرى وفاة بن غورين، واستغل المنصة ليقدّم خطابًا "بن غوريوني" يشرح به أسباب قبول وقف إطلاق النار، وفي خطابه اجتهد كثيرًا ليقنع الجمهور بأن ثمة أسباب خفية لا يستطيع أن يخبره بها، وعندما تتضح للجمهور سيعرف أن قراره كان صائبًا ومحقًا، وأن إسرائيل قوية ولديها جيش قوي، وأن على رئيس الحكومة في مرحلة الطوارئ أن يتخذ القرارات الصائبة وليس القرارات الشعبوية، حتى لو كان ذلك على حساب مصالحه الانتخابية، وتقمص شخصيات بعض العرب في قوله بأنهم سيردون في الزمان والمكان، اللذيْن ستحددهما مصلحة إسرائيل.
كبير معلقي القناة الثانية امنون ابراموفيتش شرح لمشاهديه هو الآخر أن ثمة ثلاثة أسباب - لن يعلن عنها - منعت إسرائيل من التصعيد، وحذر من أن التصعيد سيحدث ربما بين شهري مايو ويونيو من العام القادم. كتاب آخرون كتبوا في هذا الاتجاه التحليلي، في محاولة للتغطية على ما يمكن أن يوصف به العجز الإسرائيلي.
بتقديرنا في أطلس؛ نعم، هناك لغز، ويُراد له أن يظل سرًا أو غير مصرح ومعترف به رسميًا، وقد تحدثنا عنه في السابق، وقبل العودة لتحليله وتفكيكه، لابدّ من استكمال اقتباساتهم لأنها تعتبر شهادات حية ويعتد بها.
فلو ان الاحتلال لدية خطط، واستجابته لوقف إطلاق النار كانت لأسباب قوية (مثلًا انشغاله بملفات وقضايا ساخنة ومؤثرة) أو لأن لدية قرار بخطة أكثر إحكامًا؛ ألم يكن وزير الأمن ليبرمان مطلعًا عليها؟! وإن كان الأمر كذلك، فكيف يستقيل في مرحلة حساسة؟! وقد سئل ليبرمان عن ذلك، واتهم بأنه يتسبب بتفكيك الحكومة في لحظة حرجة وهامة، فردّ بأن كل ذلك كلام فاضي (كشكوش)، وأن السبب هو أن نتنياهو ضعيف، وأن قرار الكابينت هو "إذعان للإرهاب"؛ وهو ما أكده أيضًا - بشكل أو بآخر - بينيت، رئيس حزب "البيت اليهودي".
لكن وزير التعاون الإقليمي تساحي هنيغبي، وهو أحد الشخصيات القوية في "الليكود" والمقربة من نتنياهو، صرح في لقاء إذاعي بأن التصعيد يعني قصف تل أبيب بالصواريخ، ويعني شلل العاصمة الاقتصادية وشلل مطار بن غوريون، وأن الدخول إلى جباليا سيكلفنا خمسمائة قتيل، وأن ما تقوم به المقاومة من قصف لبلدات الجنوب لا يزال قصفًا ورد فعل معتدل، وأن إسرائيل هي التي بادرت وخرقت التهدئة بعمل أدى لمقتل سبعة فلسطينيين. حديث هنيغبي الذي أدين بقوة من رئيس الحكومة حتى ميري ريغف، واعتذر عنه هنيغبي لاحقًا؛ يحملُ الكثير من الحقيقة التي يحاول الاحتلال إخفاءها عميقًا، وبشهادة بعض السياسيين والكتاب، فإن حديث هنيغبي ترجم روح النقاش الذي يدور داخل الكابينت، وهو أيضًا ما يقوله الجنرال ورئيس الأركان ايزنكوت من أنهم يفضلون المظاهرات وإحراق الكاوتشوك من قبل المستوطنين احتجاجًا، على السير في جنازات الجنود.
اللغز الإسرائيلي تجاه القطاع يقف على قدميْن: قدم سياسية وقدم أمنية عسكرية؛ فسياسيًا نتنياهو يتمسك بشكل قوي جدًا بمشروع فصل القطاع سياسيًا وجغرافيًا عن الضفة، وإسرائيل منذ وقت تبحث للقطاع عن مشترٍ (كما قال الأمين عام السابق لحركة الجهاد رمضان شلح)، وهي مستعدة لأن تقدم الكثير في سبيل ذلك. سياسة نتنياهو هذه - غير المعلنة - انتقدها باراك وليفني، واعتبراها أصل غياب استراتيجية الحل السياسي تجاه القطاع، وسبب بقائه مشكلة ومعضلة دائمة غير قابلة للحسم.
وقد كتب عن ذلك سيفر بلوتسكر "عندما تنكشف في المستقبل الوثائق عن المداولات الداخلية في قيادة الحكم عندنا، ستظهر منها صورة إعطاء أولوية لسياسة فرق تضعف: استعداد لدفع ثمن المواجهات في الجنوب مقابل الانقسام الفلسطيني بين الضفة وغزة، ابتداءً من 2009 سمحت حكومات إسرائيل لحماس بأن تتثبت كصاحبة السيادة في القطاع، على أمل خفي بأن تقسم سيطرتها الأمة الفلسطينية للأبد؛ وبذلك تشطب عن جدول الأعمال المطالبة بالدولة ". وكتب ناحوم برنياع تحت عنوان "سمحوا لحماس أن تنتصر" أن "بيبي يفضّل أن تبقى الضفة وغزة تحت سيطرة جسميْن فلسطينييْن مضعفيْن ومعادييْن، ليس فرق تسد، بل فرق تضعف "، وكتب تسيفي برئيل أنه "من ناحية رئيس الوزراء؛ كل تنازل يخلد الانقسام الفلسطيني يستحق الثمن"، أي ان نتنياهو مستعد لأن يدفع الثمن ويتحمل الكثير في سبيل إنجاح خطته لفصل القطاع وضرب وحدانية التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني.
ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد، فبإمكان نتنياهو أيضًا أن يستمر في القصف والعدوان ويستمر في المحافظة على الفصل وسياسة فرق تضعف، إلا أنه يدرك ان أمر العدوان على القطاع لم يعد ممكنًا بدون ثمن، وبدون الاستعداد لثمن كبير، وهنا نصل إلى المفتاح الثاني للغز أو القدم الثانية التي يقف عليها القرار الإسرائيلي؛ أن دولة الاحتلال باتت مردوعة وأصبحت أكثر قابلية للردع، وأنه لم يعد من الممكن التغول بقصفنا وقتلنا بالطائرات والدبابات بسهولة ويسر، وهذا الردع الذي ينكوي به عقل الإسرائيلي تدريجيًا ويتعمق مع الوقت يعود لأربعة أسباب:
- ما تمتلكه المقاومة من صواريخ وقدرات قتالية، تستطيع من خلالها أن تقصف تل أبيب وما حولها بقدرة مؤثرة، وتهجير مئات آلاف المستوطنين، والتسبب بشلل كامل لحياة ثلثي دولة إسرائيل.
- امتلاك قادة المقاومة لإرادة القتل حتى الشهادة، بمعني أنه لا يمكن ردعهم، وأنهم مستعدون لدفع كل ثمن بيسر تقريبًا في سبيل النصر، بعكس دولة الاحتلال وقياداتها وعسكرييها.
- صغر مساحة الأرض التي تقوم عليها دولة الاحتلال، وتحول الجبهة الداخلية إلى جبهة مواجهة.
- الخوف من انكشاف دولة الاحتلال أمام الإقليم وأمام العالم كدولة عاجزة عن حماية مراكزها التجارية والصناعية والأمنية، والأضرار الكبرى لذلك على ما يسمى بمناعتهم القومية، وانكسار ثقتهم بقوتهم وقدرتهم على ردع الأعداء.