حين تكون ضعيفًا تقل حساباتك عند عدوك، وكلما أظهرت ضعفًا ازداد عليك جرأة؛ هكذا تتعامل إدارة ترامب مع السلطة الفلسطينية. قيام الولايات المتحدة بقطع المساعدات والأموال والمنح التي تخص اللاجئين والمستشفيات وبرامج التعليم والإبقاء على المساعدات والأموال التي تخص الأجهزة الأمنية الفلسطينية هو استهتار معيب يمس صورة السلطة الفلسطينية ومن ورائها منظمة التحرير، وذلك عبر تصوير مهمة السلطة الفلسطينية بأنها مهمة أمنية، وأنها سلطة أمنية فقط!
كان من المأمول أن يسمع المواطن الفلسطيني موقفًا قويًا من قيادة السلطة الفلسطينية تجاه هذا الأمر، للأسف فإن ضعف السلطة جعل الإدارة الأمريكية تتمادى لدرجة بدى أن وجود السلطة أصبح مرهونًا بمدى دورها الأمني المنوط بها، وقد زاد الطين بلة ما نقله وفد السلام الإسرائيلي عن أن الرئيس الفلسطيني أبو مازن (رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير) يجتمع شخصيًا مع مسؤول المنظومة الأمنية الإسرائيلية "الشاباك" ويتوافق معه حول 99% من القضايا، هذا في حين يتحدث الإعلام الإسرائيلي عن رفض نتنياهو والمنظومة السياسية في إسرائيل لقاء الرئيس أبي مازن، ولو بشكل سري.
كانت الضربة الأولى وقف التمويل الأمريكي (بمبلغ 360 مليون دولار) لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، تلاها ضربات أخرى منها وقف مساعدات مالية لمشاريع في الضفة الغربية وغزة (أكثر من 200 مليون دولار)، وقف المساعدة الأمريكية (20 مليون دولار) لمستشفييْن شرقي القدس، وقف مبلغ مخصص (10 مليون دولار) لتمويل برامج ولقاءات بين أطفال إسرائيليين وفلسطينيين، وأخيرًا إغلاق ممثلية "م. ت. ف" في واشنطن وطرد الممثل وعائلته.
"معروفٌ أن من يصمم السياسة الأمريكية في النزاع العربي - الإسرائيلي" يقول الصحفي الإسرائيلي يوسي ملمان من "معاريف" هو "الثلاثي اليهودي: كوشنير، غرينبلات وفريدمان، لا وزارة الخارجية، لا البنتاغون ولا السي. آي. ايه".
ويضيف: كوشنير هو صهر الرئيس دونالد ترامب، مستشاره الكبير والرجل الذي يهمس في أذنه، وضمن أمور أخرى هو مسؤول عن سياسته في الشرق الأوسط. أما غرينبلات فهو مبعوث الإدارة الخاص للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. وفريدمان هو سفير الولايات المتحدة في إسرائيل؛ كلهم يهود نشأوا في التربة نفسها، تعلموا في مدارس دينية ثانوية في الولايات المتحدة، وغرينبلات أنهى أيضًا دراسته بمدرسة دينية في إسرائيل، وبعد ذلك واصلوا الدراسة في جامعات أمريكية معتبرة. غرينبلات وفريدمان محاميان، وكوشنير ورث امبراطورية عقارات من أبيه الذي حكم بالسجن لسنتيْن على الغش، إخفاء الضريبة والتحرش بشاهد. عمل فريدمان وغرينبلات كمحامييْن ومستشاريْن لمجموعة ترامب، وكوشنير هو ابن بيت، قربهم من ترامب وعملهم معه ساعدهم على تلقي وظائف منشودة ومواقع قوة وتأثير في إدارته. رغم فوارق السن (فريدمان ابن 60، غرينبلات ابن 52 تقريبًا وكوشنير ابن 37) توجد لهم ميزة مشتركة: فكر محافظ ترامبي ودعم لليمين والقومية الإسرائيلية المتطرفة.
ويتابع بالقول: من كتاب الصحفي الأمريكي بوب ود وورد بعنوان "الخوف: ترامب في البيت الابيض"، ترتسم صورة كوشنير كانسان ذي نزعة قوة، نوازع داخلية ونابش لا يكلّ ولا يملّ، هدفه هو الإهانة، المعاقبة والفرض على السلطة لقبول إملاءات ترامب ونتنياهو لتسوية سلمية خانعة مع إسرائيل، وهو يؤمن على ما يبدو بأنه يمكن معاقبة الضعفاء من خلال إضعافهم أكثر فأكثر. لعل هذا ساري المفعول في عالمه الروحي، الذي تضايق فيه قروش العقارات السكان المستضعفين وتطردهم من ممتلكاتهم مقابل القروش، ولكن هل ينطبق هذا أيضًا على شعوب ذات تاريخ وعزة وطنية؟
في البداية، حاولوا أن يبلوروا ما وصفه ترامب بأنه "صفقة القرن"، التي كان يفترض بها ان تحقق اتفاقًا مخترقًا للطريق بين إسرائيل والسلطة، وحتى اليوم يواصل رجال ترامب التلميح إلى أن خطتهم ستخرج إلى حيز التنفيذ وستفاجئ الجميع.
يواصل ملمان: حتى جهاز الأمن الإسرائيلي لا يستطيب خطوات إدارة ترامب، فكلٌ من رئيس الأركان ومن كبار رجالات هيئة الأركان، ومن المخابرات أيضًا سُمع بأن الهدوء في الضفة يعتمد على مرسييْن: الأول هو التعاون الأمني مع السلطة، الذي يخدم مصالح مشتركة كحفظ الاستقرار النسبي ومكافحة حماس. يمكن الافتراض بأن التعاون سيستمر، وأنه كان للإدارة الأمريكية ما يكفي من العقل بعدم تقليصها المساعدة لأجهزة الأمن الفلسطينية، ربما لأن هذا الموضوع ليس بالمسؤولية المباشرة لكوشنير، بل للبنتاغون. أما المرسى الثاني فهو اقتصادي، حيث يبقى الاستقرار والهدوء ضمن أمور أخرى، وربما أساسًا لأن مئات آلاف الفلسطينيين يخرجون كل صباح للعمل ويعيلون عائلاتهم، والمس المفاجئ بالأونروا من شأنه أن يضعضع هذا الاستقرار وهذا الأمن الاقتصادي، ولا سيما في غزة، حيث الوضع الإنساني على شفا حفرة.
ويختم ملمان: خطير بلا تقدير، ولا إنساني حقًا، هو القرار بوقف المساعدة للمستشفييْن شرقي القدس ولبرامج التعليم؛ هذه خطوات غبية، فإسرائيل تدّعي بأن القدس هي مدينة موحدة كل سكانها، يهودًا وعربًا، يوجدون في مسؤوليتها، وبالتالي فإن عليها أن تحرص على صحة الجميع، بما في ذلك سكان شرقي المدينة. إذا لم تتم إعادة التمويل الأمريكي، فسيتعين على حكومة إسرائيل أن تنقل من ميزانيتها الأموال الناقصة. كما ان إلغاء التمويل لبرامج التعليم المشتركة للأطفال اليهود والعرب هو كالسهم المرتد، فالبرامج التي ألغيت كانت تستهدف التوازن حيال الكراهية والتحريض، وهي تربي على التعايش، التسامح وقبول الآخر.