نتصفح الأخبار فتجلدنا عناوينها بسياطٍ لا ترحم، من قرارات ترامب وتوجهاته لإعادة تعريف اللاجئ وإغلاق الوكالة وإلغاء حق العودة، وسن مختلف القوانين الصهيونية التي تستبيح أموالنا وأراضينا، وقرار المحكمة في القدس المحتلة الذي يشرعن البؤر الاستيطانية، حتى لو أقيمت على أراضٍ فلسطينية بملكية خاصة، فالصهاينة بعد جولات من قتلنا يشعرون بأنهم من بين الشعوب الأكثر سعادة.
وعن حقيقة مشاعرنا لا يسأل أحد، ولسنا بحاجة لإدراجها على سلم السعادة العالمي، فيكفي أن تقرأ أو تسمع عن رحلة جهنم من وإلى غزة، أو عن مناشدات من ينهش السرطان أجسادهم ومناشدات من لا يجدون كسرة خبز أو مأوى، أو عن الذين وجدوا انفسهم فجأة في العقد الرابع أو على أبوابه دون أن تمنح لهم فرصة العمل وبقوا يتسولون مصروفهم اليومي من والدٍ لم يعد لديه ما يقدمه، وآنسات تحولن إلى "عوانس" بفعل ندرة القادرين على الزواج؛ هذا عدا الأحلام التي تتبخر والإحباط الذي ينتشر في كل زاوية وركن، لا سيما عندما تشاهد أو تقرأ عن السجالات العنترية والرذاذ الذي يتطاير مع هدير الزعاق الغوغائي، زعاق بلا أدنى إحساس أو ذرة خجل وبعيونٍ وقحةٍ موجهةٍ إليك عبر عدسة الكاميرا، فيأتيك السؤال كالسهم: لماذا لا يصاب أحدهم بالإحباط، فيعتكف في بيته أو يشعر بالفشل فيقدم استقالته أو يغير من استراتيجيته؟ لماذا لا يحدث لهم ذلك؟ ربما لأننا لم نعد نهتم، ولم نعد نبالي بما يحدث لنا أو حولنا، وربما لأننا مكابرون نرفض الاعتراف بالفشل أو بالهزيمة ونصر على الاستمرار في حروبنا الداخلية والخارجية بذات الأشخاص والأدوات والأفكار أو أنه لا قيمة لدينا للرأسمال البشري سوى على منصات توزيع الشهادات والتقاط الصور، فلدينا الكثير منه، وهو متجدد تلقائيًا، وخسارة القليل منه لا تعتبر خسارة تستدعي الالتفات إليها، ويبدو أنه لم يعد لدينا شيء يستحق الالتفات إليه سوى وجبة الطعام التالية.
لم يمرّ الفلسطينيون بمرحلة أسوأ من هذه المرحلة، فعدونا في أفضل أحواله؛ فهو منفتح على العرب والعرب منفتحون عليه، ويتسابقون لمساعدته متخيلين بأنهم يساعدون أنفسهم، وقد نجح ونجحوا معه في إغراقنا بتفاصيل معيشية في ظل ضم القدس وتهويدها ونقل السفارة وقانون القومية وتمكين الاستيطان والحرب على قضية اللاجئين وزيادة السطوة والهيمنة الصهيونية في المؤسسات الدولية، ومن المعقول القول بأن جزءًا من تلك النجاحات هو بفعل فشل الأداء العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص، وبفعل ما نصطلح على تسميته بالانقسام، أبو كل المعاصي. وإن كنا قبل الانقسام نخسر بصعوبة، وخسائر محدودة؛ فبعد الانقسام بتنا نخسر معاركنا بالجملة وبسهولة، حتى أننا نخسر داخل بيتنا العربي وعلى مستوى تحولات ذات ميل واضح في الرأي العام العربي ليست لصالحنا للأسف الشديد، كما ان النظام العربي كله بات عاجزًا عن أن يقدم لنا ظهيرًا داعمًا كما في السابق.
لقد وصلنا منذ وقت إلى مفترق طرق حقيقي، لا ينفع معه دفن الرأس في الرمال؛ فإما أن نذهب إلى مصالحة نعيد فيها لملمة ما تبقى لنا من عوامل قوة وصمود، لنتمكن من استنهاض شعبنا ووقف مسيرة الإحباط وملاحقة الاحتلال بالوسائل والطرق والأدوات والاستراتيجيات الأنجع، وإما استكمال مسيرة الفشل وضياع ما تبقى لنا من بعض قضية وطنية، أصبح تهديدها أمرًا واقعًا وليس محتملًا.
مسيرات العودة ورفع الحصار - التي شكلت أيقونة للنضال الفلسطيني من أجل الحرية، وشكلت صرخة تحدٍ دوّت في جنبات الكرة الأرضية بفضل التضحيات الكبيرة وعزيمة ما زالت مشتعلة - مهددة بالإجهاض والالتفاف على تضحياتها مثلما تم إجهاض تضحيات سابقة كثيرة، بتأثير مفاعيل الانقسام الذي يستغله عدونا في الرفض والتحايل على مطلب رفع الحصار، سواء بالغموض والوعود العامة وبعض الجزر المسموم واشتراطات وتدرج زمني يجعل من الصعوبة وحتى الاستحالة الوصول إلى المراحل التالية، أو بالتهديد بالحرب والعدوان، في ظل التقدير بأن لا أحد يسعى إلى الحرب.
مثلما أن الانقسام أبو كل المعاصي والجرائم والهزائم، فإن المصالحة هي الشرط الأول والرئيس لأي إنجاز حقيقي، وهي القادرة على تمكيننا من استثمار تضحياتنا ورفع الحصار بأقل تكلفة وحمايتنا من عدوان طاحن آخر، فالمصالحة ليست خيارًا، بل ممر إجباري لكل من يبالي.