كتب اسماعيل مهرة :
"صفقة القرن" التي تم الترويج لها قبل أكثر من عام ونصف العام، وظهرت كأنها أشبه بإعصار لن يستطيع أحد الوقوف أمامه، وأنها قد تغير وجه المنطقة وتعيد تشكيلها، وبعد أن أخذت ما أخذت من الزخم الإعلامي وتسليط الأضواء؛ يبدو أنها إلى نهايتها الفاشلة أو على الأقل فإن راعييْها كوشنير وغرينبلات قد بدأ يتسرب إليهما إحساس الفشل وخيبة الأمل.
إحساس الفشل قرأت مؤشراته بعض الصحف الإسرائيلية، حيث كتبت كل من صحيفتيْ "إسرائيل اليوم" و"هآرتس" عن مؤشر الفشل المتزايد، وأرجعتا السبب أو تحميل المسؤولية إلى الرفض الفلسطيني ومقاطعة القيادة الفلسطينية للوفد الأمريكي، وبرأيهما فإن الشعور بالفشل هو المحرك للحراك الأمريكي للتركيز على الأزمة الإنسانية في قطاع غزة.
صحيفة "إسرائيل اليوم" أعلنت ان توقعات كوشنير حول فرص نجاح "صفقة القرن" باتت ضعيفة، لا سيما بعد ما سمعه خلال جولته بين العواصم العربية، حيث أنه لم يسمع منهم كلامًا مشجعًا، وأن العرب يرفضون أو لا يستطيعون الموافقة على تجاوز الفلسطينيين، ونقلت الصحيفة أن الملك عبد الله (الذي زار واشنطن الشهر الماضي) أبلغ الأمريكان بأن نشر خطتهم دون تعاون فلسطيني سيشكل كارثة.
من جهتها، قالت صحيفة "هآرتس" ان ممثلي بلدان عربية حذروا الوفد الأمريكي من تداعيات الكشف عن الخطة إذا لم ترتقِ لتوقعات الفلسطينيين، وإذا لم تشمل القدس واللاجئين، وأنها بذلك ستكون بمثابة زلزال، لاسيما وأن هذه الأنظمة تخوض تحديات داخلية كبيرة وصراعًا مع إيران.
إنه الغرور والصلف الأمريكي الذي يميز الطغمة المالية التي تدمج بين الامبريالية الخنزيرية والهوس الديني المسياني، الذي جعلهم ينقلبون على كل القوانين والأنظمة والأعراف، لا يرون الفلسطيني ولا ينظرون للصراعات إلا كصفقات عقارية، وأن الوظائف والأموال لها الأولوية لدى الشعوب حتى على حساب قضاياها الوطنية، فكوشنير شبّه صراعنا بصراع الأجداد، وطالبنا بأن نهتم بما ستوفره الصفقة من وظائف وازدهار اقتصادي، بحسب ما جاء في لقائه مع صحيفة "القدس"، حتى وصلت به الوقاحة لأن يهدد القيادة الفلسطينية بعرض الصفقة على الجمهور لتحريض الجمهور عليها، في واحدة من أهم سقطات الغرب الرأسمالي في قراءته لأولويات واهتمامات الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية عامة.
وربما أحد أهم الدروس التي سيتعلمها اليهوديان الصهيونيان كوشنير وغرينبلات أن الأنظمة العربية الفاسدة والفاشلة والعاجزة قد تمنحه كل شيء داخل الغرف المغلقة، لكنها في العلن لن تجرؤ على تجاوز الخطوط الحمراء لقضية العرب؛ إلا إن تجاوزها صاحب القضية الأول، وهي القيادة الفلسطينية، لذلك قالوا دومًا "نقبل ما تقبل به القيادة الفلسطينية"، ومارسوا ضغطا عليها لتقبل بما يمكنهم قبوله، وتحميل المسؤولية للفلسطيني بذريعة أنهم لن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطيني.
القيادة الفلسطينية كانت كالصخرة الكأداء التي رفضت حتى اللقاء والتفاوض، بعد أن اكتشفت أنه تم التلاعب بها، وبعد أن عرفت أن جوهر الصفقة يؤدي إلى تخليد الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس.
وقد شارك الملك عبد الله القيادة الفلسطينية ذات الموقف تقريبًا، لاسيما بعد نقل السفارة الأمريكية للقدس، والملك عبد الله - بخلاف بقية الزعماء العرب - يشعر بأن يده هي التي ستغل في النار في حال تمرير الصفقة رغم أنف الفلسطينيين، وهو الذي سيدفع الثمن على مستوييْن: اتهامه بالخيانة والتفريط، وتحويل الأردن إلى الوطن البديل للفلسطينيين. لذلك، وبعد الضغوط الكبيرة (وقف المساعدات المالية وإغراقه بالديون، ما أدى إلى التظاهرات الشعبية الكبيرة) التي مورست عليه في أعقاب تحفظاته؛ نراه اليوم يحتمي بالموقف الفلسطيني، وهو ليس وحده في ذلك، فربما كل القادة العرب الذين يلتقيهم كوشنير وغرينبلات يسمعوه اليوم نفس الجملة "سنؤيد ونموّل عندما تقبل القيادة الفلسطينية".
ويبدو أن خيبة أمل كوشنير هو أن القيادة الفلسطينية الحالية - الممثلة بالرئيس عباس تحديدًا - باتت غير قابلة للضغط، فلم يعد يهمه شيئًا، حتى لو قطعوا كل التمويل عن السلطة وأدى ذلك إلى التهديد بانهيارها، وما يزيد إحباط كوشنير أن هذا الموقف طوقت به القيادة التي سترث عباس.
إسرائيل من جهتها تعتبر الرابح الأكبر، فقد أخذت ما أرادته من الصفقة دون ان تضطر حتى إلى نقاش تفكيك بؤره استيطانية في عمق المدن الفلسطينية، وربما إسرائيل والأنظمة العربية تشتركان الآن وتتقاطعان في تحويل مجرى الاهتمام الأمريكي بالملف الإيراني على كل مستوياته وتفرعاته، فهو ملف لا يحمل لهم أية مضاعفات، بل يوسع قاعدة الشراكة ويبررها، ويعمّق التعاون الأمني ويعزز منظوماته، وهو يتماشى مع مبدأ أولوية العلاقة الأمنية الإقليمية على ما سواها من علاقات.