في خطاب الرئيس محمود عباس أمام أعضاء المجلس الوطني، تناول البعد التاريخي للأسباب الاستعمارية التي كانت الدافع الرئيسي للعلاقة بين الاستعمار والصهيونية، وانتزاع فلسطين من جسمها العربي وتقديمها للحركة الصهيونية لتقيم عليها وطنًا لليهود، وفي السياق السردي عرج على تفسير بعض اليهود لأسباب كراهية الغرب لليهود، الذي يعود بحسب هؤلاء لدورهم الوظيفي، والحقيقة ان الرئيس لم يزعم بأنه يقدم استنتاجات جديدة من عنده، بل يقتبس من مؤرخين، وما تناوله أبو مازن من اقتباس لأسباب اضطهاد اليهود هو أمر معروف بين المطلعين على تاريخ ونشأة ما عرف في أوروبا بالمسألة اليهودية، وما اصطلح على تسميته لاحقًا باللاسامية، فضلًا عن ان بعض المؤرخين اعتبروا ان الجذر الديني هو سبب آخر للسبب الوظيفي الاقتصادي - الاجتماعي.
أما عن الدور الوظيفي للكيان الصهيوني على أرض فلسطين بالنسبة للاستعمار الغربي، فهذا الدور لم يخفيه الصهاينة قديمًا؛ بل تفاخروا به، وإن كانوا اليوم يتحفظون عن ذكره، فإن مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتسل كتب عن ذلك في كتابة الشهير (دولة اليهود)، حيث اعتبر دولة اليهود التي ستقوم في فلسطين ستكون دولة غربية، وستشكل سدًا منيعًا للحضارة الغربية أمام الحضارة البربرية الشرقية.
في السنوات الأخيرة، لوحظ ان الرئيس في خطاباته يكثر ويركز على الرواية التاريخية الفلسطينية في مواجهة الرواية الصهيونية، وهي تأتي في سياق مهم، لكن يبدو ان هذا التركيز أيضًا يعود لأسباب سياسية لها علاقة بوصول التسوية إلى طريق مسدود أو بالأحرى إلى حالة إعلان فشلها.
ويبدو واضحًا ان الجزئية المتعلقة بدوافع الكراهية الغربية لليهود، التي جاءت في خطاب الرئيس، قد مسّت عصبًا حساسًا لدى المضطهدين سابقًا لليهود ولدى اليهود الصهاينة، لكن الصهاينة وأصدقاءهم استثمروها، وكأنها هدية من السماء انتظروها طويلًا، ليقودوا هجومًا بشعًا ضد الفلسطينيين بوصفهم عنصريين لاساميين ومحرضين على اليهود بصفتهم يهود، وهذا ما يصفه مسؤول الرابطة الأمريكية ضد التشهير بأنه بمثابة خبزهم اليومي الذي يعتاشوا منه، فالصهيونية تعيش على اللاسامية وتستخدمها فزاعة وأداة ابتزاز، وعبرها تمارس إرهابا سياسيًا يصل إلى حد اعتبار أي انتقاد للاحتلال الصهيوني وممارساته - مهما كانت بشعة - بمثابة عمل لاسامي وجريمة يعاقب عليها القانون.
أبو مازن - الذي يبدو أنه فهم حجم الهجوم وخطورة استثمار الصهيونية للجزئية المتعلقة بأسباب كراهية اليهود - سارع إلى تقديم صيغة اعتذارية أو توضيحية، لكنهم في إسرائيل رفضوا اعتذاره، من يمينهم إلى يسارهم، رفض يدلل على نوايا استهدافهم لاستنفاد كل ممكنات استغلال وتوظيف الخطاب.
صحيفة "إسرائيل اليوم" نشرت إثر العاصفة: "رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) اعتذر يوم الجمعة عن الأقوال التي قالها قبل بضعة أيام من ذلك بأن الكارثة وقعت لليهود بسبب أفعالهم، وليس بسبب أصلهم العرقي"، وأضافت الصحيفة بأن اعتذار أبو مازن جاء بعد الانتقاد الشديد الذي تعرض له، بما في ذلك من الاتحاد الأوروبي، الذي في الغالب لا يسارع إلى تأييد إسرائيل، ففي بيان الشجب من الاتحاد الأوروبي جاء ان "اللاسامية لا تشكل تهديدًا لليهود فقط، بل هي خطر حقيقي على المجتمع المفتوح والليبرالي في أوروبا".
وقال جلعاد أردان ان اعتذار أبي مازن يكشف فقط عن تفكيره المشوّه، وقد جاء فقط ليخدم أغراضه السياسية. أما ليبرمان فقد رفض الاعتذار معقبًا "أبو مازن هو نافٍ بائس للكارثة، كتب دكتوراه عن نفي الكارثة، وبعد ذلك نشر كتابًا عن نفي الكارثة؛ هكذا ينبغي التعاطي معه. اعتذاره غير مقبول". أما النائب ايتسيك شمولي من "المعسكر الصهيوني" فقال ان "اعتذار أبي مازن غير جدي وغير حقيقي، فهو لم يتراجع عن أقواله المهينة، ولم يقتلع مرة واحدة وإلى الأبد جذوره اللاسامية. لعله بالفعل حان وقته للنزول من المنصة".
وكتب النائب ايتان كابل من "المعسكر الصهيوني" على "فيسبوك": "استمعت إلى خطابك هذا الأسبوع، والذي كان مبلطًا ومتبلًا بكراهية اليهود، الذين استخدمهم كبار طغاتنا على مدى التاريخ، بالغت واخترت حجة جد متدنية وضحلة؛ وهكذا اخترت الانضمام إلى النادي المنكر والحقير لكارهي إسرائيل الأكبر، الذين من ناحيتهم اليهودي الطيب هو اليهودي الميت"، وأضاف "لن يدهشني إذا تبين ذات يوم بأن كتابك المحبب، الموضوع إلى جانب سريرك وتقرأه كل ليلة كي تلطف منامك وتشحن كراهيتك هو (بروتوكولات حكماء صهيون)، أهذا ما تعتقده عنا؟ بالنسبة لي فإن الخطاب المنفر والزائد هو وصمة عار، كان خيرًا لو أنه لم يولد".
كذلك شن الكتاب الإسرائيليون هجومًا قاسيًا، فكتبت سمدار بيري في صحيفة "يديعوت" مقالًا بعنوان "أبو مازن شوكة في حلق الجميع" قالت فيه "عن عمد لن أعود إلى الخطاب ولا إلى الاعتذار أيضًا، لا يوجد عفو عندنا، ولن تكون مغفرة. لقد استغرق أبو مازن خمسة ايام كي يفهم بأنه يخاطر بأموال المساعدات من الدول المانحة، ويتورط مع البيت الأبيض ومع الاتحاد الأوروبي. وعلى الطريق سمع أيضًا ملاحظات، وان كانت توبيخات صغيرة، حذرة، من العصبة التي تحيط به في المقاطعة. ولكن انتبهوا إلى أن أبا مازن لم يمله الإسرائيليون فقط، فقصر الملك في السعودية، قصر الملك في الأردن، مقر الرئيس السيسي في القاهرة واتحاد الامارات في الخليج؛ أحد لن يذرف دمعة إذا ما انصرف، فمنذ زمن بعيد استوعبوا بأنه ليس لديه قوة، ليس لديه رؤيا، وليس لديه استقامة، وهو عالق كالشوكة المزعجة في حلق الجميع".
لكن الكاتب اليساري جدعون ليفي كان كعادته مختلفًا، فكتب منتقدًا زعماء ومشجعي الاحتلال "يصعب حقًا التفكير في هذا التصرف المرفوض والمجنون: زعيم الشعب الفلسطيني اضطر إلى الاعتذار أمام الشعب اليهودي، المسلوب اضطر إلى الاعتذار من السارق، المجني عليه من الجاني، المقتول من القاتل. المحتل حساس جدًا، يجب فقط الاهتمام بمشاعره. شعب لم يتوقف عن الاحتلال والتدمير والقتل، ولم يخطر بباله في أي يوم الاعتذار عن أي شيء من ذلك يجعل ضحيته تعتذر عن جملة بائسة واحدة قالها زعيمها، والباقي معروف مسبقًا: الاعتذار مرفوض. ماذا اعتقدتم؟ هل اعتقدتم بأن الاعتذار سيقبل؟ لا يجب أن تكون من أتباع محمود عباس كي تفهم عمق اللامعقول، لا يجب أن تكون كارهًا لإسرائيل كي تفهم كامل الوقاحة.