بعد أن جربت إسرائيل جميع أسلحتها ووسائلها الردعية والإرهابية لإجهاض مسيرات العودة والتأليب عليها، وثني المنظمين وإرهابهم عن المضي قدمًا؛ يبدو أنه لم يبقَ لديها سوى استفزاز المقاومة واستدراجها للمربع العسكري أو ردعها، فمسيرات العودة وما تراكمه من خبرة وتجربة وجرأة، أسبوعًا بعد أسبوع، باتت منذ وقت تحديًا كبيرًا تخشاه إسرائيل، وتخشى تطوراته ومفاجآته، لا سيما مع اقتراب يوم النكبة.
بالرغم من تهديدات ليبرمان بأن مزيدًا من "العنف" في المنطقة الحدودية سيُرد عليه بقصف داخل عمق القطاع، في محاولة لفرض معادلة جديدة، بالرغم من ذلك فقد فاجأ قصف مواقع البحرية مساء الجمعة سكان القطاع، نظرًا لأنه لم يسبق ذلك أعمال عسكرية من قبل المقاومة. وقد جاء بيان الناطق الرسمي باسم الجيش ليوضح السبب، ويكشف العلاقة التي يربطها الجيش بين القيام بالمساس بالسلك الفاصل وبين الرد الإسرائيلي بالقصف وتحميل حركة حماس المسؤولية عمّا يحدث فوق الأرض وتحت الأرض، في محاولة للضغط عليها لوقف أو احتواء مسيرات العودة.
ونظن أن أحدًا في إسرائيل لا يمكن أن يقتنع بأن هذا القصف - بل ومزيدًا منه - سيدفع المقاومة والفصائل الفلسطينية إلى وقف مسيرات العودة. ويبقى الهدف الإسرائيلي من خلف القصف يسعى بشكل أساسي إلى استفزاز المقاومة واستدراجها إلى المربع العسكري، وجباية الثمن، ونيل ثقة جمهورهم اليميني، ورفع رصيدهم الأمني في أوساطه.
إن محاولات استفزاز المقاومة واستدراجها إلى المربع العسكري هي الطريقة الأمثل بالنسبة لإسرائيل لإجهاض هذه المسيرات، فعندما تطلق الصواريخ تنسحب الجماهير، وعندما تنسحب هذه الجماهير لا يكون من السهولة مطالبتها بالعودة للميدان، وعندما تجهض مسيرتها دون تحقيق أهدافها - بعد كل هذه التضحيات - فإنها ستصاب بخيبة أمل وإحباط كبيرة وقاسية.
وعليه، فليس أمام المقاومة في هذه المرحلة سوى ضبط النفس أمام كل الاستفزازات الإسرائيلية ومحاولات الاستدراج، ضبط النفس بكل ما تعنية الكلمة من معنى، فأصل الفعل هنا هو للجماهير ولإبداعاتها وإطلاق يدها وإطلاق مبادراتها دون انجراف كبير، بحيث يشكل الحرص على حياة الشباب وعدم المخاطرة ومنح العدو مبررات لاستخدام أدوات الفتك والقتل أحد المحددات الأهم للفعاليات الشعبية.
ويبدو جليًا أنه ليس أمامنا في هذه المرحلة - كشعبٍ محاصر في القطاع وتتعرض قضيته لتصفية كبرى - سوى سلاح وإرادة الشعب، وترجمة ذلك عبر هذا الإبداع الشعبي الأسبوعي، فضلًا عن مشاغلة العدو واستنزافه بطريقة أو بأخرى حتى نبقيه مشدودًا ومستفزًا ومستنفرًا دون ان نسمح له بالتعايش مع مقاومة الشعب الأسبوعية، فتعايش الاحتلال الناتج عن تحولها إلى عمل روتيني متكرر يشكل مستقبلًا أحد نقاط ضعفها الممكنة.
المقاومة الشعبية لا يجب أن ترتبط بتاريخ أو عناوين محددة أو مواسم، بل يجب ان تتحول إلى ثقافة ونمط حياة وسلوك، وتمتاز بالصبر وطول النفس وبخطاب ذكي وواعٍ قادر على استثمارها، لنحولها من مجرد تهديد إلى كابوس للعدو، ورافعة حقيقية لكفاح شعبنا وتدفيع عدونا الثمن، والمقصود هنا هو الثمن السياسي في محاصرة مشاريعه وقطع الطريق على مخططاته وتعزيز صلابة ووحدة شعبنا، والأهم هنا مرحليًا إساءة وجه عدونا وإظهاره بما هو عليه حقيقة من وحش متعطش للأرض والدماء، ومنفلت ومنقلب على كل المنظومات الدولية والإنسانية والقانونية والأخلاقية، وأهم مرتكزاتنا ان مقاومتنا ومطالبنا تحظى بالشرعية وعدونا لا يحظى بشرعية قمعها بالعنف والقوة، وهو ما بات يترجم بشكل قوي في بعض المؤسسات الدولية.
أقوال نيكولاي ميلادينوف، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام، أثناء إفادته لأعضاء مجلس الأمن في جلستهم المفتوحة بخصوص القطاع، كانت انتصارًا كبيرًا لجماهير القطاع، وهجومًا قويًا على سياسات الحصار الإسرائيلية وعلى أعمال القتل التي يمارسها جيشها على الحدود ضد المدنيين، "غزة على شفير الانفجار والوضع الانساني يتفاقم. يعيش هناك أطفال ونساء ورجال، وحولهم حدود لا يمكن عبورها، ما يحدث إجحاف بهم لا يمكن القبول به، يعانون منذ أكثر من 11 عام جراء حصار إسرائيل. تعتدي إسرائيل على متظاهرين سلميين قرب حدود غزة، ما أدى إلى قتل العشرات (منهم أطفال وصحفيّان)، يجب إجراء تحقيق مستقل في حوادث قتل الفلسطينيين".
بدوره، عاموس هرئيل، المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، يعترف بأن المقاومة الشعبية في القطاع نجحت بشكل كبير وخلقت ضائقة لإسرائيل، ويقتبس هرئيل عن جلسة للكابينت لنقاش الأوضاع في غزة، حيث يدعي بأن الوزير شتاينتس قدّم اقتراحًا لحل الضائقة الاقتصادية في غزة بتحويل جزء من أموال المقاصة إلى حسابات رواتب الموظفين في القطاع، الذين جمدت السلطة رواتبهم، وأن أجهزة الأمن الإسرائيلية لم ترد على الاقتراح.
استمرار المقاومة الشعبية والزخم المهدد يوم النكبة واحتمالات انفجارها في الضفة أيضًا، يعتبر بالنسبة لإسرائيل يوم ذروة التهديدات أو ما يسمونه بـ "ذروة مايو الرهيب" الذي قد يتحول إلى يوم من أيام التاريخ المشهودة التي يبني عليها، ومع ذلك فإن معيارنا لا يرتبط، ولا يجب أن يرتبط بمعايير ومحددات ليوم 15 مايو، فالأهم هو الاستمرار ما بعد مايو وما بعد بعد مايو.