كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه السنوي للأمة عن امتلاك روسيا صواريخ أسرع من الصوت لا ترصدها الأنظمة المضادة، ولا يملكها أحد، ومضى بوتين في استعراض الأنظمة الإستراتيجية الجديدة والإنجازات العسكرية الروسية عبر 6 أشرطة فيديو و17 شريحة. هذه الصواريخ لها هدف واحد بحسب خطاب بوتين هو الولايات المتحدة، وذلك رداً على خروجها الأحادي الجانب من معاهدة الدفاع الصاروخي ونشر منظومة الدرع الصاروخية داخل وخارج أميركا وقريباً من روسيا.
إستراتيجية بوتين المعلنة أعادت طرح واقع النظام الدولي الذي تغير بعد الانهيار السوفياتي في العام 1991، وانتقل من نظام القطبين السوفياتي والأميركي إلى نظام القطب الواحد الأميركي، الذي أعاد صياغة النفوذ والسيطرة استناداً للقوة الأميركية المنفردة. ومن المعلوم أن الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت خسر في المباراة الاقتصادية التي كانت سبباً رئيساً بإخفاقه، في الوقت الذي كان فيه يملك 33 ألف رأس نووي تكفي لتدمير العالم. لا يعوز المرء إثبات النتائج الوخيمة التي لحقت بشعوب الدول المتأخرة جراء الاستفراد الأميركي بالنظام الدولي. لقد فرضت أميركا شروطاً اقتصادية وعلاقات تبعية مذلة وشروطاً سياسية لا تقل سوءاً، خاصة التنكر للشعوب التي لم تنجز تحررها الوطني كالشعب الفلسطيني، فضلاً عن السيطرة على مؤسسة الأمم المتحدة والتنكر للقانون الدولي ولميثاق الهيئة الدولية.
مبدئياً، لا يمكن مساواة نظام القطب الواحد "أميركا " بنظام دولي متعدد الأقطاب (أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين)، كما لا يمكن مساواة نظام القطب الإقليمي الواحد "إسرائيل" بنظام إقليمي متعدد الأقطاب (إسرائيل ويشمل مصر إيران سورية وتركيا). التعدد يعني تعدد المصالح وبناء نوع ما من التوازن يرسم الحدود والخطوط التي لا ينبغي تجاوزها، والتعدد يقطع الطريق على الاستئثار والتفرد وعلى كل مسعى لفرض سياسات تنسجم مع مصلحة طرف واحد مهيمن. من جهة أخرى، ثمة فرق بين قطب دولي له أطماع في النهب والهيمنة ويؤيد أنظمة تابعة ومستبدة وفاسدة ويعادي حق الشعوب في تقرير مصيرها ويؤيد الاحتلال والسيطرة على شعب –أميركا مثلاً، وينطبق بمستوى آخر على التدخل الروسي في سورية. وعلى صعيد إقليمي هناك فرق بين دولة إقليمية استعمارية عنصرية (إسرائيل) وبين دولة مستقلة مستبدة ديكتاتورية وطائفية ولها أطماع إقليمية (إيران) ودولة مستبدة وتابعة (مصر)، ودولة مستبدة دموية (سورية) ودولة عضو في الناتو ونظام مستبد (تركيا). الجانب التطبيقي لا شك في أنه الأساس في التأييد وفي عدمه لهذا القطب أو ذاك. في التعدد غالبا ما يكون هناك أقوياء وضعفاء تنعكس قوتهم وضعفهم على السياسات ومناطق النفوذ وعلى مصالحهم الخاصة، كما كان عليه الحال أثناء الحرب الباردة. مستوى الفائدة التي تجنيها الشعوب من انفراد وتعدد الأقطاب ومستوى الضرر الذي يلحق بها هو الذي يسمح بالتأييد الكبير والأقل، أو عدم التأييد، وليس الموقف المبدئي والمجرد فقط. مثلاً نحن كشعب فلسطيني خسرنا ولم يستطع النظام الدولي ثنائي القطبية مساعدتنا في تقرير المصير والتحرر من الاحتلال وإقامة الدولة ولا حتى في الحماية أثناء حرب 82. مقابل انحياز النظام الدولي في زمن القطبين وزمن القطب الواحد لدولة الاحتلال. خسرنا في التعدد وفي الاستفراد.
السؤال، هل غيرت روسيا المعادلة، بإعادة الاعتبار للنظام الدولي ثنائي القطبية؟ أو هي في طريقها لتغيير المعادلة؟ وهل سيكون مثل هذا التطور في حالة تحققه لمصلحة الشعوب التي دفعت ثمن الاستئثار الأميركي بالنظام الدولي؟ توزعت المواقف بين متحمسين لروسيا، سرعان ما أسقطوا رغباتهم على الواقع وبدؤوا يروجون للمعادل الروسي. وبين المنحازين لأميركا كنظام مهيمن يستظلون بظله ويتبعون سياساته مهما بلغت سوءاً واستفزازاً كالاعتراف بالقدس الشرقية المحتلة عاصمة موحدة لدولة الاحتلال.
إذا اعتمدنا العامل الاقتصادي كعنصر أساس في سباق التسلح ونشر النفوذ، فإن روسيا هي الأضعف بما لا يقاس، خاصة إثر عقوبات الغرب المفروضة عليها بعد أزمة أوكرانيا، والتي أدت إلى انخفاض كبير في قيمة الروبل، وإلى انخفاض مستوى المعيشة للشعب الروسي.. وتحصيل حاصل فقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى خفض الموازنة العسكرية الروسية وهي بالأساس أقل عشرة أضعاف من الموازنة العسكرية الأميركية. وهنا لا يمكن لدولة تترنح اقتصادياً أن تواصل مباراة سباق التسلح دون أن يسوء وضعها الاقتصادي أكثر فأكثر، معيدة إلى الأذهان ما حدث للاتحاد السوفياتي سابقاً.
وإذا اعتمدنا العامل السياسي كأداة أخرى للقياس، فقد خسرت روسيا دول أوروبا الشرقية جميعها وأصبحت جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وأصبح بعضها (بولندا والمجر وأستونيا) أعضاء في حلف الناتو. وخسرت أوكرانيا أو تحولت إلى عنصر أزمة ضدها. ولم يبق لها إلا بعض التحالفات غير الراسخة مع الصين وإيران ومع النظام السوري مقابل استخدامه سورية كقاعدة نفوذ. صحيح أن التدخل الروسي منع انهيار حليفه نظام الأسد باستخدام آلة التدمير والقتل التي حرقت الأخضر واليابس ونالت من الأبرياء. لكن الحسم العسكري الروسي عجز عن إيجاد حل سياسي يعيد اللاجئين ويبني البلد المهدم. والحضور الروسي في الشرق الأوسط لم ينعكس إيجاباً على الصراع مع إسرائيل، فكل الترسانة الروسية في سورية استثنت من مجال عملها كبح العدوان الإسرائيلي المتواصل الذي استهدف حلفاء روسيا. ولم ينعكس الوجود الروسي على القضية الفلسطينية بشيء رغم الاستباحة الإسرائيلية الأميركية لها، بقيت إسرائيل حرة في توجيه الضربات تحت مرأى ومسمع جنرالات روسيا وبقيت أميركا حرة في تصفية القضية الفلسطينية.
ولم يكن رهان روسيا على ترامب وظاهرته وامتداداتها في أوروبا مبعث افتخار لمعجبي بوتين. فالترامبية التي وعدت بجلب الكثير من الأزمات لدول وشعوب العالم وللشعب الأميركي لا تستحق استخدام روسيا لمهاراتها الاستخبارية كي تؤمن فوز ترامب العجيب.
لقد أنقذ بوتين روسيا من الانهيار وحولها إلى بلد مستقر وأعاد بناء النظام المركزي وعزز من صلاحياته الاستثنائية باعتباره منقذاً، وتحول إلى حاكم مطلق الصلاحيات بعد أن قنن المعارضة والديمقراطية والحريات وأبقى على الصفة الشمولية لنظامه. وهذا يفسر دعمه ودفاعه عن أنظمة ديكتاتورية، أوتحالفه معها. وهو يحاول العودة للحرب الباردة، كأسلوب لخلق مصالح جديدة من طبيعة كولونيالية لروسيا. فهل ينجح في ذلك؟ وهل يستحق التأييد؟ معركته في سورية، وانحيازه لترامب، وصداقته لإسرائيل، وعداؤه للديمقراطية لا تسمح بالقول نعم! مع أن الحاجة ضاغطة لتعدد قطبي وإقليمي لمصلحة الشعوب وتحررها.
Mohanned_t@yahoo.com