اختبار القوة الثاني في تقرير مصير القدس ..حسين حجازي

السبت 03 مارس 2018 01:49 م / بتوقيت القدس +2GMT



ما هي القوة الأكثر وزناً وتأثيراً في تقرير المعادلة او الحسابات النهائية في تحديد مصير القدس؟ هل هي كنيسة القيامة وقبل ذلك الى جوارها المسجد الاقصى، أم تصريح دونالد ترامب؟ والجواب واضح، إذ قيل مرة وفي وقت مبكر ان بن غوريون عارض أو لم يشأ احتلال القدس الشرقية، وقال محذراً أصحاب الرؤوس الحامية إن إسرائيل لا تستطيع أن تحمل المسيحية والإسلام على ظهرها أي مكة والفاتيكان معاً. وتساءلنا بسخرية مرة: هل تملك إسرائيل كتفي هرقل البطل الإغريقي الأكثر شهرة في الاسطورة اليونانية؟ وما زال مضيق جبل طارق بين اوروبا وافريقيا يسمى بأعمدة هرقل.
وفي التاريخ أن تشرشل وروزفلت اعترضا على ضم ستالين في محادثات يالطا في بولندا المسيحية الكاثوليكية، وقالا محذرين ستالين "إن البابا يزعل" فما كان من ستالين الا ان أجابهما بصورة مفحمة بطرحه السؤال الشهير "ولكن كم دبابة او فرقة عسكرية يملك البابا؟"، فكم دبابة او فرقة عسكرية يملك المسيحيون والفلسطينيون وإخوانهم المسلمون في القدس؟ والجواب صفر.
وكنت في وارسو عاصمة بولندا في اواسط الثمانينات في زمن تنصيب البابا لكنيسة روما من أصل بولندي، وكانت ارهاصات او رياح الثورة القادمة على ارث ستالين والامبراطورية السوفياتية تشتم وتهب في كل مكان، خصوصاً في أواسط الانتلجنسية او النخبة المثقفة في بولندا، وكنت تستطيع ان تلمس ذلك من السخرية الهازئة التي كان البولنديون يصفون المبنى الحكومي او لعله الحزبي الضخم، الذي بني وسط المدينة في عهد ستالين كتعبير عن قوة ورسوخ السيطرة السوفياتية.
وهكذا بعد سنوات قلائل في العام 1989 سوف تجتاح بولندا واوروبا الشرقية ما يشبه عملية الدومينو، في الثورة على ما بقي من السيطرة الستالينية التي حدثت في يالطا. ولكن قبل ذلك كان المحرك الاقوى الذي دفع الى هذا الحراك انما هو اعتداد البولنديين بأنفسهم وارثهم الخاص، حيث كان يبدو لاي مراقب في ثمانينات القرن الماضي مدى قوة الكنيسة الكاثوليكية، ومقابل السخرية من الستالينية التي اعتبروها صفحة شاذة في تاريخهم. 
كان اعتدادهم واضحاً بالعالم البولندي الشهير كوبرنكس والعازف البولندي العظيم دوليا شوبان الذي توازي شهرته شهرة موزارت، ومعزوفاته على البيانو التي تمجد الحنين الى الوطن وقوة الانتماء اليه، في المقطوعات المؤثرة ما زالت ملهمة للمنفيين او اللاجئين والتي تسمى "البولونيزيز" أي البولنديات.
وقد يبدو الآن أن خطاً واصلاً بين النزعة الثورية التي اجتاحت وعي البولنديين في ثمانينات القرن الماضي، وبين الازمة التي شهدتها العلاقة بين بولندا واسرائيل، على خلفية ما يبدو انه محاولة من البولنديين التخلص مرة واحدة والى الابد من ارث اتهامهم بالمسؤولية الى جانب النازي في التسبب بالمحرقة اليهودية في اوشفتس او ما يسمى الهولوكوست، باعتبار ان يهوداً كما يقول البولنديون شاركوا هم ايضا في التعامل مع النازي ضد شعبهم، وبالتالي لم يعودوا يقبلون استمرار اتهامهم بهذا العار. وذهب البولنديون حدا في تحدي الخطاب الاسرائيلي الى اعتبار ذلك قانوناً.
ويبلغ عدد الطوائف المسيحية في القدس ثلاث عشرة طائفة تعكس التنوع الطائفي المسيحي حول العالم، باستثناء المسيحيين الصهاينة الذين يقال ان دونالد ترامب في اعترافه المشار اليه ان القدس عاصمة لإسرائيل، كان يحاكي موقفهم الذي يعتبر شاذاً من بين هذا التوافق او الإجماع المسيحي حول العالم، والذي يمثله المسيحيون في القدس، وينظر الى اسرائيل كقوة احتلال في المدينة.
وها نحن شهود للمرة الثانية منذ تموز الماضي على هذا السجال الفريد والنادر الذي يحدث أمامنا للمرة الثانية على التوالي، في اختبار القوة بين الاماكن المقدسة المسيحية والاسلامية في القدس وبين قوة الاحتلال. وها نحن نشهد التراجع الاسرائيلي مرتين امام صلوات المسلمين على ابواب المسجد الاقصى بعد ان قرروا المواجهة، وقبل ايام حين قرر مسيحيو القدس إغلاق كنيسة القيامة. وما كان لإسرائيل ورئيس حكومتها المتورط حتى قمة رأسه في قضايا التحقيق معه بتهم الفساد، ان يحتمل غضب بابا روما ومسيحيي العالم لإغلاق ام الكنائس ثلاثة أيام. ولقد اقام مسيحيو فلسطين ومسلمو فلسطين الصلاة مرة أُخرى معاً وسوياً أمام كنيسة القيامة، فهنا المسيح قام وهنا على هذه البقعة المقدسة من الأرض لعله خاطب اتباعه واصفاً إياهم بـ "ملح الأرض"، أي الملح الذي يطيب الطعام.
واذ اختار ترامب الذي يحاول مكشوفاً عمل المستحيل والأخرق لتقديم الدعم والإنقاذ لنتنياهو عند هذه اللحظة الحرجة والمصيرية بالنسبة للرجل، حتى ولو تخلى عن المظهر الاحتفالي في نقل السفارة الى مبنى يليق بعظمة أميركا، مكتفياً بهذا النقل الباهت الذي يختصر كل هذا الضجيج بمبنى صغير للقنصلية. فأي تأثير استقر في وعي العالم ووجدان الفلسطينيين الاسبوع الماضي، هيبة وقوة كنيسة القيامة ام قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟ وهو قرار بات من الواضح ان الرئيس الأميركي يخضع بسببه الآن وفي هذه الأيام الى ضغوط أوروبية عليه، ربما لإعادة تعديله او تشذيبه لكي يمكن الى جانب تعديلات اخرى موافقة الفلسطينيين على التسوية المقترحة. 
ولكن الشيء المهم الآن ليس ان المسيحيين برهنوا عن حضورهم اللافت في معركة القدس وهم لم يكونوا في السابق غائبين، ولكن لعل هذه المواجهة او الاختبار الثاني والأخير كان أمراً حاسماً للتأكيد المرة الأخيرة وللأبد على هوية المدينة، والتي فشل الاحتلال على مدى خمسين عاماً في تغييرها.