كنت في التاسعة عشر من عمري حين حزمت أمتعتي في شنطة سفر حمراء اللون كبيرة الحجم مسافرة للمرة الاولى وحدي بعد ان اختارتني جامعة بيرزيت لتمثيلها في مؤتمر في University De Bologna في إيطاليا. كان ذلك شيئا كبيرا جدا بالنسبة لي ولعائلتي ولأصدقائي. هذا ليس سفرا بالحافلة لزيارة جدي في طولكرم، ولا عبر جسر الاردن لزيارة خالي في عمان، هذا سفر عبر الهواء وعابر للقارات. حينها اذكر ان الخطوط الإيطالية اضاعت حقيبتي الحمراء الكبيرة، فحزنت لأنني حزمت بها الكثير من الهدايا الصغيرة التي اشتريتها بشغف من بين محلات فينيسيا الساحرة للاهل والاصدقاء.
كنت فرحة طيلة الوقت، واذكر وصولي لمطار شارل ديغول الذي كان اشبه بوصول "أليس الى مدينة العجائب" كما كنّا نقرأ في القصص صغارا. نوافذ زجاجية ضخمة تقبل الارض وتحتضن السماء، وتدخل كما هائلا من الضوء مخترقا زوايا القاعات شاهقة العلو. محلات تجارية فاخرة تعرض ما لذ وطاب من الأطعمة والمشروبات. وما فاق جماله من قطع الموضة المختلفة بألوان زاغ معها بصري. أناس يركضون امام أمتعة مختلفة الالوان والاخجام والاشكال، يهرولون بتقاطعات انسيابية كل لوجهته.
امضيت وقتا اشاهد كم البشر المسافرين في ذك المكان الضخم، لا يقطع ذهولي واسترسالي سوى صوت يعبر سماعات المطار لسيدة تعلن بالفرنسية الجميلة أشياء لم أكن افهمها، وتنادي اسماء لاناس ابتلعهم هذا المطار الضخم فتأخروا عن الوصول لبوابات المغادرة الخاصة برحلاتهم.
كان المشهد جديدا جدا بالنسبة لي، كل تفاصيله حملتني للانبهار المطلق، فأنا قادمة من رام الله ومن جامعة بيرزيت حيث حاجز صردا يحول دون وصولي لجامعتي التي تبعد عشر دقائق عن منزلي دون أن امر بتفتيش الجنود ومزاج الظابط وان وفقت سمح للحمار الذي يستقلني وزملائي بالمرور عبر السواتر الترابية. فكيف من عدل الحياة ان يقطع البشر قارات بحرية ولا اصل أنا لجامعتي بسهولة؟ قلت لنفسي، لا تعكري صفوك واستمتعي برؤية ما هو جديد ومختلف.
لَم اكن خائفة من اي شيء حينها، سوى انني حينما وصلت الى ايطاليا فاتني القطار في بولونيا حيث كنت متجهة للعنوان الذي كان من المفترض ان أصل اليه لبلد اسمه ميلانو ميراتيمو فشعرت حينها بشيء موحش حيث أن الليل قد اسدل ستاره على المكان وخفت أن أكون قد اضعت القطار الأخير. فلم يكن الايطاليون الطيبون حينها يعلمون بأنني قدمت من بلد تتقلص خارطته، وتتمدد وتتغير بفعل مزاج المحتل وسطوته، فلم أكن املك القدرة على قراءة الخرائط في المقام الأول.
ثم أنني قدمت إليهم من بلد لا يسمح لاهله ببناء بيت يأويهم دون إذن من المحتل فكيف لنا ان نملك خطوط سكة حديد لأعتاد قراءة أوقات مغادرة القطارات ووصولها. فأنا كما اسلفت أصل جامعتي بعد ان استقل سيارة اجرة نحو الحاجز ثم عربة يجرها حمار الى أن يقطع السواتر الترابية ثم سيارة اجرة اخرى نحو الجامعة ان كنت محظوظة ذك النهار بالوصول.
لكن يبدو انني ومنذ تلك الرحلة أصبت بحمى الغربة، فلا زالت امتعتي تغفو في الحقائب ولا زلت اجلس في قاعة المطار انتظر اعلان إقلاع الطائرة التالية للوجهة القادمة التي لا علم لي بها ولا بلغة أهلها ولا طباعهم. لقد كان السفر حلما جميلا يراودني وانا الاحق الخطوط البيضاء الملتصقة بذيل الطائرات المحلقة فوق رام الله مقلعة من مطار مدينة اللد. فأسائل أبي احقا يجلس الناس في هذا الشيء المحلق عاليا؟
اما اليوم فالسفر والتنقل واقع كلما مر بي الزمن أيقن انه الوصفة المثالية لأن يعيش المرء في الحاضر جسدا وفِي الماضي روحا وقلبا وعقلا.
فالغربة تجعل المرء هشا من الداخل مفترسا قويا ضاريا في الظاهر، انا اليوم أرحل مسافرة لداخل نفسي، للجزء الهش مني باحثة عن امي وابي، عن أخوتي واصدقائي وعن حلم يلاحق ذيل الطائرة، فقد نال التعب مني وغلب ضعفي قوتي.