تعزيز فرص انتقال السلطة وإعادة تشكيل المنطقة
مثلت السعودية، في الأيام القليلة الماضية، ساحة تطورات مهمة؛ كان أولها استقالة رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، التي أعلنها من الرياض. وبقدر ما أثارت الاستقالة انتقادات إيران وحلفائها، بوصفها (الاستقالة) موجهة ضدهم، عدّها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بمنزلة "جرس إنذار" للتصدّي لمحاولات إيران السيطرة على الشرق الأوسط. وبعد ذلك، جاءت حملة إقالات واعتقالات، شملت أمراء ووزراء سعوديين حاليين وسابقين ورجال أعمال معروفين، بتهم فساد، وقُرئت على نطاق واسع بوصفها خطوةً أخرى كبيرةً باتجاه تعزيز قبضة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على مفاصل السلطة، وهو الذي يقود تيارًا سعوديًا متشدّدًا ضد إيران، ومنفتحًا على التعاون مع إسرائيل.
كما جاء إطلاق الحوثيين صاروخًا باليستيًا باتجاه الرياض كردٍ من إيران على التصعيد السعودي ضدها. وكان مستشار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصهره، جاريد كوشنير، قد قام الأسبوع الماضي بجولةٍ غير معلنة في المنطقة، بدأها من السعودية وشملت إسرائيل، في تحركٍ أميركي يبدو أنه يأتي لكسر الجمود في ما تسمى "عملية السلام"، وبما يسمح بحصول تنسيق بين دول "الاعتدال" العربية وإسرائيل لمواجهة إيران. وجاء التطور المرتبط بالسعودية على لسان ترامب الذي ناشد الملك في تغريدة على "توتير" إدراج الاكتتاب على جزء من شركة "أرامكو" النفطية السعودية في بورصة نيويورك، في ربطٍ مباشر بين المصالح الإستراتيجية والمالية الأميركية والعلاقة مع "الحلفاء" الخليجيين، الأمر الذي أصبح سمةً ملازمةً للسياسة الأميركية في عهد ترامب. فماذا تعني هذه التطورات كلها؟ وهل تصب، كما يبدو، في إطار توجه شامل تقوده واشنطن، وتسير به السعودية، لمحاصرة إيران، وإعادة تشكيل المشهد الإقليمي في المنطقة؟
استقالة الحريري
مثلت استقالة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، مفاجأة كبيرة؛ إذ لم يسبق أن صدرت عنه إشاراتٌ حول عزمه على الاستقالة من منصبه الذي شغله منذ نحو عام، بموجب صفقة حظيت حينها بموافقة السعودية، وجاءت بالجنرال ميشيل عون رئيسًا للجمهورية، بعد فراغ رئاسي استمر منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق، ميشيل سليمان، عام 2014.
بدا الحريري، خلال الشهور القليلة الماضية، فاقدًا السيطرة في ظل استفراد حزب الله، وكتلة رئيس الجمهورية، بإملاء سياسة لبنان الخارجية والأمنية. وفي وقتٍ كانت السعودية تشدّد الخناق على حزب الله، عبر جملة إجراءات وحملة تصريحات، قادها وزير الدولة لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، اعتبر الرئيس ميشيل عون، في زيارة قام بها إلى القاهرة في شباط/ فبراير الماضي، أن سلاح حزب الله لا يتعارض مع الدولة، وهو جزءٌ مهمٌ من الدفاع عن لبنان. وقد كرّر عون هذا التصريح، أخيرا، عندما قال إن لبنان بحاجة إلى سلاح حزب الله، لأن الجيش ما زال ضعيفًا. كما أجرى صهر عون، وزير الخارجية جبران باسيل، لقاءً بوزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيلول/ سبتمبر الماضي، وأثار حينها موجة احتجاجات في لبنان، قادها خصوم النظام السوري، باعتبار لقائه مخالفة لقرارات جامعة الدول العربية التي علقت عضوية سورية فيها ردًا على الجرائم التي ارتكبها النظام بحق السوريين. وجاء أخيرًا قرار إعادة سفير لبنان إلى دمشق، والتي مثلت انفتاحًا كاملًا ومعلنًا على النظام السوري. وبعد لقائه مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي أكبر ولايتي، في بيروت، جاءت تصريحات الأخير التي أدلى بها عقب انتهاء اللقاء، وتحدث فيها عن "الانتصارات" التي تحققها إيران على امتداد المنطقة، محرجةً لرئيس الحكومة اللبنانية.
وعلى الرغم من ذلك كله، لم تصدر أي إشارات عن استعداد الحريري للاستقالة. ومن هنا، جاء إعلانه قرار التخلي عن رئاسة الحكومة من الرياض مفاجأة، وجاءت قراءتها رغبةً سعوديةً في التصعيد ضد إيران وحزب الله لمواجهة التمدّد الإيراني الذي تمثل في محاولة تغيير الوضع القائم في لبنان، وتكريس الهيمنة عليه. كما تأتي في إطار حملةٍ كبيرةٍ، تقودها إدارة ترامب ضد إيران، وتؤيدها إسرائيل، حيث بدأت بإعلان ترامب رفضه تجديد التصديق على الاتفاقية النووية مع إيران، وطلبه من الكونغرس تعديلها، لتشمل برامج إيران الصاروخية وأنشطتها "المزعزعة للاستقرار" في المنطقة.
وشملت الحملة أيضًا حزمة عقوباتٍ ضد مسؤولين كبار في حزب الله، وتجدّد محاولات واشنطن قطع الطريق على مساعي إيران لربط غرب العراق بشرق سورية، في إطار الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، عبر زيادة دعم وحدات حماية الشعب الكردية للسيطرة على مناطق الحدود السورية - العراقية. وكان لافتًا في خطاب استقالة الحريري التركيز على القضايا الإقليمية، ومحاولات إيران وحزب الله الهيمنة على المنطقة.
صاروخ الحوثي
لم تمض ساعات على بيان الاستقالة الذي انتقدته إيران بشدة، واتهم حزب الله السعودية بالوقوف وراءه، حتى أُعلن عن سقوط صاروخ باليستي، مصدره اليمن في أطراف الرياض. ومع أن الصاروخ لم يخلف أضرارًا تُذكر، لوقوعه في منطقة خالية في حرم مطار الملك خالد، ومع أن إطلاق صواريخ من اليمن باتجاه السعودية تكرّر في الآونة الأخيرة، فإنّها المرة الأولى التي يصل فيها صاروخ من هذا النوع إلى الرياض؛ ما يعني أن ترسانة صواريخ سكود متوسطة المدى التي استولت عليها مليشيات الحوثي، بعد سيطرتها على السلطة في صنعاء ومخازن أسلحة فرق الجيش اليمني التي ما زالت على ولائها للرئيس السابق علي عبد الله صالح، قد خضعت للتعديل والتطوير، ما سمح بزيادة مداها. وهناك توقعاتٌ بأن خبرات إيرانية ربما ساهمت في تطوير هذه الصواريخ، لأن نقل صواريخ من هذا النوع من إيران إلى اليمن يعد أمرًا بالغ الصعوبة، في ظل حالة الحصار التي يفرضها التحالف العربي، بقيادة السعودية، على اليمن، والمراقبة الأميركية المستمرة للمنطقة. ويعد إطلاق هذا الصاروخ بمنزلة تحذير إيراني من أن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي في حال جرى استهدافها.
زيارة كوشنر السرية
كشفت وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية عن زيارة غير معلنة قام بها كوشنير إلى السعودية، وهي الثالثة في العام الجاري، رافقه فيها نائب مستشار الأمن القومي، دينا باول، ومبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط، جايسون غرينبلات. وقد شملت زيارة الوفد الأميركي الأردن ومصر والضفة الغربية وإسرائيل، في محاولة جديدة لدفع ما تسمى عملية السلام في الشرق الأوسط. وتراهن إدارة الرئيس ترامب في عملية التطبيع الجارية على تلاقي المصالح بين الأنظمة الحاكمة في السعودية والإمارات وإسرائيل، وعلى أن إحراز تقدّم، ولو شكلياً، في المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية يساعدها في تحقيق تقارب علني بين إسرائيل والدول العربية "المعتدلة"، ويرفع الحرج، خصوصا، عن السعودية، في إطار جهدها لتشكيل جبهة إقليمية واسعة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، تضمها إلى جانب إسرائيل.
وكانت تقارير إعلامية إسرائيلية استندت إلى تسريباتٍ حكومية، تحدثت عن زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إسرائيل في أيلول/ سبتمبر الماضي، نفتها الرياض. ومن هنا، يمكن فهم ترحيب نتنياهو بإعلان الحريري استقالته من الرياض، في إطار زيادة الضغوط على إيران وحزب الله، واستعداده للتنسيق مع السعودية لمواجهتها.
تعزيز قبضة بن سلمان على السلطة
في هذا السياق، جاءت حملة الاعتقالات التي شملت أمراء نافذين في العائلة المالكة يشكلون آخر مراكز القوى داخل الأسرة وفي النظام. ففي خطواتٍ سياسيةٍ معدّة سلفًا، أعلن الملك سلمان بن عبد العزيز عن إنشاء هيئة لمكافحة الفساد، أوكل رئاستها إلى نجله ولي العهد محمد بن سلمان. وقد أصدرت الهيئة، خلال ساعات من إنشائها، أوامر إقالة واعتقال 11 أميرًا من العائلة المالكة، إضافة إلى أربعة وزراء حاليين، وعشرات الوزراء السابقين ورجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين، ومصادرة أموال قدّرتها وسائل إعلام بمليارات الدولارات.
وكان أبرز من جرت إقالتهم واعتقالهم وزير الحرس الوطني، الأمير متعب بن عبد الله وشقيقه أمير منطقة الرياض السابق، تركي بن عبد الله. وبإقالة الأمير متعب، يكون محمد بن سلمان قد أحكم سيطرته على آخر جهاز عسكري داخل الدولة، بعد أن أكمل سيطرته على الجيش ووزارة الداخلية، بعد إقالة ولي العهد ووزير الداخلية السابق الأمير محمد بن نايف في حزيران/ يونيو الماضي.
ويبلغ عدد الحرس الوطني نحو مائة ألف عنصر، وتأسس عام 1954، وقد تولى الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز رئاسته منذ عام 1962، ونقل قيادته إلى ابنه متعب بعد أن أصبح ملكًا عام 2005، وحوّله إلى وزارةٍ للحرس الوطني، قبل وفاته بوقت قصير.
ترامب و"أرامكو"
وفي ما بدا أن تحركات محمد بن سلمان لاجتثاث أي تهديد محتمل من داخل العائلة تحظى بتأييد الرئيس ترامب، ومساعديه المقربين، وفي مقدمتهم صهره كوشنير (تحدثت وسائل إعلامية أميركية عن علاقة خاصة تربطه بولي العهد)، بدا لافتًا أيضًا طلب الرئيس الأميركي، في تغريدة له على "توتير"، من الملك سلمان بن عبد العزيز إدراج الاكتتاب المزمع لنحو 5% من شركة أرامكو النفطية العملاقة، والتي تقدر قيمتها الإجمالية بنحو تريليوني دولار، في الأسواق المالية الأميركية، كما حثّ ترامب العاهل السعودي على تنفيذ الصفقات التي جرى التعاقد عليها خلال زيارته، في أيار/ مايو الماضي إلى الرياض، وقُدرت بنحو 400 مليار دولار، من بينها صفقات أسلحة قيمتها 110 مليارات دولار. وقد اتضح، من خلال هذا الطلب، أن ترامب يربط دعمه للسياسات السعودية داخل المملكة، وفي الإقليم، بمدى استعداد الرياض للاستثمار في الاقتصاد الأميركي.
حصار قطر ومزاعم البحرين
ومع ارتفاع نبرة التصعيد مع إيران وحزب الله، وتزايد المؤشرات على تقارب خليجي - إسرائيلي برعاية أميركية لمواجهة النفوذ الإيراني، تستمر الأزمة الخليجية، وتتنامى حدة التهديدات نحو قطر التي تخضع لحصار تقوده السعودية منذ خمسة أشهر. وكان لافتًا أن البحرين هي التي تقود عملية التصعيد خلال الفترة الأخيرة، إذ طالبت بتعليق عضوية قطر في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهدّدت بأنها لن تحضر أي قمة خليجية تحضرها قطر، ما لم تستجب لشروط رباعية الحصار، كما أعادت البحرين فرض تأشيرة دخول على القطريين الراغبين في دخول أراضيها، في خرقٍ للاتفاقيات الناظمة لتنقل المواطنين بين دول مجلس التعاون، علمًا أن البحرين لا تسمح أصلًا بدخول القطريين أراضيها منذ فرض الحصار عليها في حزيران/ يونيو الماضي. كما عادت البحرين تتحدث عن مزاعم تاريخية في أراضٍ قطرية، تمّ حل الخلافات بشأنها بين البلدين؛ بعضها بطرق ثنائية، وبعضها عن طريق التزام الدولتين بالتحكيم الدولي، وهو ما يبدو أنه محاولة جديدة لإيجاد ذريعةٍ لرفع مستوى التصعيد مع قطر، من مدخل الخلافات الحدودية.
خاتمة
تبدو التطورات الأخيرة التي تشكل السعودية محورها محاولةً لإعادة رسم المشهد الإقليمي، بطريقة تؤدي إلى عزل إيران، ومنعها من تعزيز نفوذها في المنطقة. ويبدو أن هذا التوجه يتم بالتنسيق مع إدارة ترامب وإسرائيل، وقد أخذ يتسارع بصورة كبيرة، مع اتضاح نتيجة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وهزيمته في سورية والعراق. لكن تجربة اليمن تثبت أن إستراتيجيات التأزيم تجري بموجب سيناريوهات متفائلة، غالبًا ما تبالغ في تقدير القوة الذاتية، كما أن عزل إيران واحتواءها لن يبدو بالسهولة التي يجري ترويجها، في ظل تعزيز التقارب بين إيران وتركيا، واتجاه العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة إلى مزيدٍ من التدهور، والذي ستنعكس آثاره على شكل دعم روسي متزايد لمواقف الدول المناوئة للسياسات الأميركية في المنطقة. ويبدو أن دور قوى عقلانية وأطراف إقليمية ودولية تدفع إلى الحوار، وترفض التصعيد، هو الغائب في هذه المرحلة.