في أطروحة له عن تحول الحركات المتطرفة الى أحزاب معتدلة وديمقراطية، كتب ستاثيس كالِفاس في العام ١٩٦٦ أن السماح للحركات المتطرفة بالمشاركة في الحياة السياسية يؤدي في نهاية المطاف الى اعتدالها.
الأسباب، في اعتقاده، تكمن في أن تفاعل أفراد هذه الحركات مع الآخرين، وأن موافقتهم على الالتزام بالقوانين والنظم التي تحكم المؤسسات التي يشاركون فيها، وأن حاجتهم الى الحصول على أصوات الجمهور في الانتخابات تؤدي مجتمعة الى تغير في خطابهم السياسي والى تغير في قناعاتهم بشكل تدريجي الى أن يتحولوا الى حركات ديمقراطية.
كالِفاس كان يتحدث عن الحركات المسيحية المحافظة في أوروبا التي كانت ترفض الديمقراطية كنظام سياسي، لكن السماح لها بالمشاركة في الانتخابات أدى في المحصلة الى تحولها الى أحزاب ديمقراطية لا تحمل من «الدين» غير الاسم مثل الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا.
أفكار كالِفاس أصبحت موضع اهتمام كبير من الباحثين في العلوم السياسية، خصوصاً، المختصين منهم بالدراسات الشرق أوسطية بسبب وجه الشبه بين الحركات المسيحية في أوروبا سابقاً وحركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط وآسيا بشكل عام.
السؤال الذي عكف على دراسته العديد من هؤلاء الباحثين ونشروا حوله عشرات المقالات كان: هل السماح بمشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية يؤدي الى تحولهم من أحزاب تدعو الى إقامة حكومات إسلامية ملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية الى أحزاب تقبل بالديمقراطية كنظام للحكم؟
الأبحاث أكدت أن هذا الموضوع لا يزال موضع جدل وأن الإجابة عليه تتراوح ما بين قبول الإسلاميين بمبدأ التداول السلمي للسلطة لأنه يوصلهم الى الحُكم دون الاقتناع بالديمقراطية كجوهر له، الى الاقتناع بها وقبولها كنظام سياسي.
القائلون بأن الإسلاميين يقبلون فقط بالديمقراطية كآلية توصلهم للحكم، يرون في تجربة إخوان مصر دليلاً على ذلك. هم قبلوا بالانتخابات وفازوا بها، لكنهم عند كتابتهم للدستور، حرصوا على تشكيل جمعية تأسيسية لهم فيها الأغلبية من أجل صياغته على «مقاسهم وحدهم». في دستورهم على سبيل المثال، تم رفض بند المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة.
القائلون بأن الإسلاميين يقبلون بالديمقراطية كنظام سياسي، يستحضرون تجربة حركة النهضة التونسية التي وافقت على دستور تم القبول فيه، على سبيل المثال، بحق الفرد في حرية الضمير. بمعنى حقه في أن يحمل ما يشاء من الأفكار وحقه في الدفاع عنها.
لبعض الباحثين، الفرق بين نهضة تونس وإخوان مصر يتعلق بالدور القيادي لكل من راشد الغنوشي زعيم الأولى وبين محمد بديع مرشد عام الثانية. الأول مفكر ومطور للفكر الإسلامي عاش في الغرب والثاني محافظ لم يغادر مصر في حياته.
للبعض الآخر، النهضة أُجبِرت على الاعتدال لأن حكومة بن علي طاردتها وسجنت الآلاف من كوادرها، بينما إخوان مصر سُمِح لهم بالمشاركة السياسية في عهد مبارك ولم يتعرضوا لضغوط كافية تجبرهم على التغيير.
والمجموعة ثالثة، كوادر النهضة تغيروا بسبب تفاعلهم وتحالفهم مع أحزاب ليبرالية وديمقراطية معارضة قبل الثورة التونسية، بينما إخوان مصر لم يتفاعلوا أو يتحالفوا مع أي من هذه الأحزاب أو الحركات قبل الثورة المصرية.
في تقديري المتواضع بأن النهضة التونسية لا تختلف كثيراً عن إخوان مصر وأن الخلاف الأساسي هو في قوة المجتمع المدني والسياسي في كلٍ من تونس ومصر.
في الانتخابات التونسية التي جاءت بالنهضة الى الحكم نهاية العام ٢٠١١، النهضة حصلت على أعلى الأصوات، لكنها لم تحصل على أغلبية في البرلمان تمكنها من الحكم وحدها. اضطرت للتحالف مع حزبين ديمقراطيين من أجل الوصول الى الحكم.
الجماعات السلفية في تونس أيضاً كانت ضعيفة وحضورها السياسي محدود. الجزء النافذ منها «متطرف» يؤيد تنظيمات مثل «القاعدة وداعش» وهو بالتالي لا يتوافق مع النهضة ولم يشارك أصلاً في الانتخابات. النهضة بالتالي لم تجد شركاء إسلاميين من السلفيين في البرلمان للتحالف معهم كبديل عن الأحزاب الديمقراطية.
يضاف لذلك، ذلك الحضور الفاعل والقوي لمنظمات المجتمع المدني من الاتحاد العام للشغل، الى نقابة المحامين، الى منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والاتحادات النسوية.
هذه الحركات السياسية الديمقراطية وهذا المجتمع المدني المنظم والفاعل هم من أجبروا النهضة نهاية العام ٢٠١٤ على قبول دستور ديمقراطي.
إجبار النهضة على ذلك تطلّب تظاهرات وتهديدا بإضراب عام لتعطيل عمل الدولة. خلال هذا المسار الذي استمر أقل من ثلاث سنوات، قُتِلَ نائبان في البرلمان من نواب المعارضة الديمقراطية من قبل حركات إسلامية متطرفة، وهذا بدوره أضعف موقف النهضة على الصعيد الشعبي لأن المعارضة استغلت ذلك لاتهام النهضة بأنها على علاقة مع هذه الجماعات وأن رفضها لكتابة دستور ديمقراطي يشجع على التطرف.
النهضة إذن لم تقبل بالديمقراطية كنظام للحكم بمحض إرادتها، ولكن بسبب الضغط الذي مورس عليها من قبل تيار سياسي ديمقراطي فاعل ومنظم ومجتمع مدني يقظ وله حضور شعبي قوي.
في مصر الوضع مختلف كلياً. الإخوان المسلمون والسلفيون حصلوا على أكثر من ثلثي مقاعد مجلس الشعب، وحصلوا بالانتخابات المباشرة على الرئاسة.
في مصر، الأحزاب الديمقراطية التي نجحت في البرلمان لم تحصل إلا على عدد محدود من المقاعد، وهي لم تكن متوافقة مع بعضها البعض. يضاف لذلك عدم وجود منظمات نقابية وازنة أو حضور لمجتمع مدني فاعل.
كان قرار الإخوان بكتابة دستور غير ديمقراطي مبني على حسابات أهمها: إرضاء السلفيين بسبب حضورهم الفاعل في مجلس الشعب وفي مصر عموماً، وإرضاء المؤسسة العسكرية حتى لا تنقلب عليهم. لذلك حصل السلفيون في الدستور على كل ما طالبوا به من مواد، وحصلت المؤسسة العسكرية على استقلالية تامة في ميزانيتها وفي قراراتها بما فيها تعيين وزير دفاعها.
مشكلتهم بالطبع أنهم أخطؤوا في حساباتهم الخاصة بالمؤسسة العسكرية، لكن هذه مسألة أخرى. المهم أنهم لم يروا في الأحزاب الليبرالية المنافسة لهم خصماً يجب التنازل له، ولم يشعروا أيضاً بالضغط من المجتمع المدني المصري.
للبعض، تظاهرات ٣٠ حزيران المليونية العام ٢٠١٣ تؤكد وجود حركات وأحزاب ومجتمع مدني فاعل في مصر. اليوم نعلم يقيناً بأن هذه التظاهرات كانت مدفوعة من قبل الدولة العميقة المصرية ــ النظام القديم الذي تم إسقاطه في ٢٥ يناير ٢٠١١ ــ. ونعلم أكثر من ذلك بأن بعض الحركات الثورية التي شاركت فيها لم تكن على علم بذلك. بمعنى أدق، هذه التظاهرات لم تحركها أو تقودها قوى ديمقراطية فاعلة.
مختصر الكلام أن الإسلاميين في مصر وتونس لا يختلفون كثيراً عن بعضهم البعض فكرياً.
كلاهما سعى لإقامة نظام سياسي أقرب الى تطبيق الشريعة الإسلامية، وكلاهما في نفس الوقت تصرف بشكل براغماتي: قدموا التنازلات وفق حسابات مبنية على قوة خصومهم لا بسبب تغير في قناعاتهم الفكرية.
في تونس، الخصم الديمقراطي كان قوياً والحلفاء السلفيون كانوا ضِعافا. النتيجة كانت التنازل للخصم الديمقراطي القوي.
في مصر، الخصم الديمقراطي كان ضعيفا، والحلفاء السلفيون كانوا أقوياء. التنازلات بالتالي كانت من نصيب السلفيين وليس الديمقراطيين.