تفرض مئوية وعد بلفور التي تُصادف في الثاني من الشهر القادم إعادة التأمل في الظروف التي أحاطت صدور ذلك الوعد في السنة الرابعة من الحرب العالمية الأولى 1917، وعلاقة ذلك الصدور مع جملة من العوامل التي لعبت لصالح الحركة الصهيونية وتناغمت مع أهدافها. المقالة السابقة لكاتب هذه السطور في هذه الصفحات في 24 أيلول استعرضت توافق فكرة إقامة وطن قومي لليهود مع التفكير الإستراتيجي البريطاني بشكل عام وعريض، لقربها من قناة السويس الطريق الشريان الأهم نحو الهند، ولانسجامها مع النزعات الصهيونية التي سيطرت على عدد من صناع القرار البريطانيين، خاصة جورج لويد رئيس الحكومة البريطانية آنذاك، ووزير خارجيته آرثر بلفور، فضلاً عن محاولة توظيف النفوذ اليهودي في واشنطن وموسكو لأجل دفع البلدين للانخراط في الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا. هذه المقاربة تتأمل في وعد بلفور من زاوية أخرى لا تقل أهمية عن الأبعاد الإستراتيجية تلك، وهي الرغبة الأوروبية في التخلص من "المسألة اليهودية" برمتها، و"تخليص أوروبا من اليهود". وقد كمنت الجذور المختلفة لهذا "التخلص" في العداء المُتأصل لليهود في أوروبا، خاصة شرقها، وفي انتشار "العداء للسامية" والبحث عن حل لـ "مشكلة" وجود اليهود ونفوذهم المالي والسياسي الكبير كما كان يُنظر له من قبل نخب سياسية حاكمة في روسيا ولاحقاً ألمانيا والنمسا وغيرها.
خلال الربع الأول من القرن العشرين، وإياباً في التاريخ إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تطورت في السياق الأوروبي السياسي والثقافي ما كان يُعرف بـ "المسألة اليهودية". وهذه "المسألة" كانت تتمحور حول فهم وتعريف موقع اليهود كأفراد ومجموعات ضمن المجتمعات الأوروبية، وفيما إن كان يُفترض فيهم الاندماج المباشر كمواطنين في تلك البلدان وشعوبها، أو بقاؤهم منعزلين في غيتوهاتهم وحيواتهم المنفصلة. كما أن هذه المسألة ارتبطت جوهرياً بالوعي القومي المتزايد في أوروبا وضرورة تعزيز الانتماءات القومية على حساب الدينية وسواها. وتطورت "المسألة اليهودية" في أوروبا وأخذت اتجاهات مدفوعة بسمتين أساسيتين كان الوعي الأوروبي الشعبي والمثقف والمسيس يراهما ملازمتين لليهود: الأولى الأرثوذكسية الدينية الجماعية التي تحيل انتماء الأفراد إلى الدين والجماعة الدينية خاصتهم بشكل شبه حصري، والثانية السمعة السيئة التي لحقت بهم تاريخياً جراء اشتغالهم بالمال والإقراض وما كان يُرى في الوعي الشعبي الغربي بأنه استغلال ومراباة. تنامت تلك الاتجاهات والتي أصبحت تعرف بـ "معاداة السامية" نحو تعزيز عنصريات متنوعة الدرجات ضد اليهود وتبلور العداء لهم ووصوله إلى مستويات عالية. تفاقمت هذه العنصرية والعداء لليهود في روسيا القيصرية بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر ووصلت مداها في أواخره، دافعة الكثير من المثقفين اليهود إلى تبني الفكرة الصهيونية كحل لـ "المسألة اليهودية"، وهي التي تمحورت حول فكرة الخلاص اليهودي عبر إقامة كيان قومي لهم في أي بقعة في العالم. ولم يكن الوضع بأفضل حالاً بالنسبة لليهود في ألمانيا والنمسا والشرق الأوروبي عامة، وتزايد العداء لليهود بألمانيا والنمسا في عقود القرن العشرين الأولى كما نعلم مع قيام الحزب النازي واستهدافه اليهود واعتبارهم "الطابور الخامس" الذي يدمر ألمانيا من الداخل. في أوروبا الغربية، بريطانيا وفرنسا على وجه التحديد، تمتع اليهود بوضع أفضل وتبنوا سياسات اندماجية، رغم أن العداء لليهود ظل مُستبطناً في الوعي الشعبي ويعبر عن ذاته بين الوقت والآخر.
على هذه الخلفية اصطدمت فكرتان في الأوساط اليهودية المثقفة وتلك المهتمة بمصير يهود أوروبا: الأولى هي العمل على إدماج اليهود في مجتمعاتهم بكل السبل ومنحهم حقوق مواطنية متساوية ودستورية، والثانية العمل على إقامة كيان قومي ديني لهم خارج أوروبا لأن مسألة إدماجهم في المجتمعات صعبة إن لم تكن مستحيلة. وكانت بطبيعة الحال الفكرة الصهيونية هي التي حملت لواء الحل الثاني ودعت له، وقدّمت عدة مقترحات منذ أوائل القرن العشرين لمناطق محتملة في العالم، من ضمنها الأرجنتين وأوغندا. لكن الفكرة الصهيونية لم تستطع أن تستقطب الشعبية والتأييد العام ليهود أوروبا وظلت إلى حد ما نخبوية في مراحلها الأولى، وعوديت من قبل شرائح يهودية عديدة ومتدينة. والشيء المهم والمثير حقاً في سيرة الفكرة الصهيونية هو أن قوتها الحقيقية جاءت من خارجها، أي من تلاقيها مع إستراتيجيات ورغبات وتوجهات دولية واستعمارية في ذات الوقت. ذلك أن فكرة ترحيل اليهود من أوروبا و"تخليصها" منهم عبر إنشاء كيان قومي لهم في أي مكان بالعالم لاقت استحساناً وقبولاً عند الحكومات الأوروبية وكثير من القادة السياسيين حتى عبر المتوسط وفي الولايات المتحدة. وقد تمكن القادة الصهاينة من ملاحقة هذا الاستحسان إلى أمديته القصوى، خاصة في بريطانيا التي كانت العمود الفقري للحلفاء خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، واشتغلت الصهيونية خلال عقود الحربين وما بينهما على تفعيل الرغبات الدفينة لدى السياسيين الأوروبيين إزاء فكرة التخلص من اليهود الأوروبيين وترحيلهم إلى فلسطين. ومن المثير هنا الإشارة إلى أن عدداً من المثقفين والسياسيين اليهود في القارة الأوروبية وقفوا بقوة وصلابة ضد الفكرة الصهيونية ليس فقط لتناقضها مع مفاهيم المواطنة والاندماج وولاء اليهود للدول التي يعيشون فيها ومن المفترض أن ينتموا لها، بل وأيضاً لأن فكرة بناء كيان يهودي خالص لا تعني سوى تأبيداً لفكرة الغيتو اليهودي الجماعي. وربما أشهر هؤلاء السياسيين اليهود كان إدوين صاموئيل مونتاغيو، وزير دولة في الحكومة البريطانية، الذي رفض فكرة وجود "جنسية يهودية" ورفض فكرة وعد بلفور وحاول إلغاءها، ولم ينجح إلا في تعديلها جزئيا. وقال: إن دولة يهودية في فلسطين سوف تكون على حساب العرب والمسلمين وسوف تخلق أكبر غيتو يهودي في العالم.
أما الجانب الألماني من قصة الحركة الصهيونية فهو لا يقل إثارة. فهنا ورغم ما هو معروف وموثق من عداء هتلر والحركة النازية لليهود وجريمة المحرقة التي اقترفها بحقهم، إلا أن فكرة "شحن يهود ألمانيا" إلى فلسطين كانت تروق له ولم يمانع في أي هجرات يهودية إلى فلسطين. كما أن الحركة الصهيونية نفسها رأت في المحرقة فرصة كبيرة تثبت ليهود أوروبا أن مصيرهم الوحيد هو في الرحيل عن القارة وإقامة كيان خاص بهم. وفي الجانب الأميركي أيضاً استولت فكرة ترحيل يهود أوروبا وحل "المسألة اليهودية" إلى الأبد عبر تهجيرهم إلى فلسطين على مخيلة كثير من القادة والسياسيين. وخلف شعار وسياسة التأييد لإقامة وطن قومي لليهود اختبأت كثير من مشاعر الكراهية لليهود والرغبة في تخليص القارة البيضاء منهم. ويرد ذلك في مدونات وتواريخ كثير من الساسة الأميركيين الذي استبطنوا نزعة لاسامية قوية، وعلى رأسهم هاري ترومان نفسه الذي كان يبدي تأييداً منقطع النظير لفكرة إقامة دولة إسرائيل وسارع في الاعتراف بها. ففي وقت لاحق نشرت يومياته التي امتلأت بتعبيرات كراهية واحتقار لليهود أدهشت المؤرخين والإسرائيليين معاً.
Email; khaled.hroub@yahoo.com