في قمة حالات الإستقطاب ، و التحشيد ، و المواجهة الفكرية و السلوكية ، حقق التيار السياسي المتدين ، و على راسه حماس ( ممثلة عن الإخوان المسلمين بقالب تنظيمي ، سياسي إجتماعي عسكري ) ، حققت إنتصاراً كبيراً في التغلغل في الأوساط الشعبية و النسيج التكويني الجمهوري للأمة ، تم ذلك بعدة موجات من العمل ، المنظم و الهادئ ، حتى باتت جزء من ( ثقافة ) الأمة ، التي طالما تفاخر الوطنيون و التقدميون أنهم أكبر من مجرد حركة أو تنظيم و أنهم يمثلون ( ثقافة) شعوبهم .. و هو شعار ترفعه حركته فتح التي تعتبر رأس سنام الحركة الوطنية الفلسطينية ، بأنها ( أم الجمــاهير ) ، و أنها ثقافة شعب ، و نهج حياة للفلسطينيين .
لست هنا في معرض تتبع و شرح بحثي لتطور حركة حماس ، و التيارات المتدينة ، بدءاً من النشاطات الإجتماعية و الرياضية و التعاونية و الجمعيات الخيرية و الإغاثية و مروراً بالفعل الوطني و المواقف السياسية و الإنتفاضة و العمل العسكري النوعي ، و الحكم و التحكم و وصولاً إلى شبكة العلاقات الإقليمية و الدولية .. ولكن و بكل تجرد ، وواقعية ، دعونا نعترف ، أن الحركة السياسية المتدينة حققت إنتصاراً وجودياً ساحقاً ، و باتت أحد مكونات الشعب ، و أحد معاملات المعادلة ، بدونها تختل ، بل أكثر من هذا أستطيع القول أن إلغاء أو سحق أو إهمال هذا المعامل ، سيؤدي إلى خلل في توازن المعادلة الوطنية و الإقليمية ككل ، قد يحتاج إلى أجيال لرتقه و تعويضه . هنا ، و في تقديري أن عدداً لا بأس به من قيادات و حكماء التيار السياسي المتدين ، قد وعوا و أدركوا حجم إنتصارهم هذا ، الذي بلغ الذروة بعد الوصول إلى سدة الحكم ، و التشريع و أنشأ شبكة من العلاقات الدولية السياسية و العسكرية و المعلوماتية بل و التحالفات الإستراتيجية و التكتيكيه و غيرها من التعريفات .. و بلغ حجم الإحساس بالترسخ و التجذر و الثبات كمعامل أساس في أي تركيبة ، للمجتمع ، الحالي أو المستقبلي ، بلغ حداً جعل التمسك بالسلطة و الإدارة عائقاً أمام الزحف الذي بدأ، في قيادة الشعوب ، فالسلطة و همومها و مسئولياتها ، تعتبر إختباراً سيئاً صعباً و مأزقاً يمنع و يحاصر ترف النقد و النقض ، و إطلاق النظريات و الشعارات الشعبوية ، لذلك فالخطر الحقيقي ..على التيارات القومية و الوطنية و التقدمية الفلسطينية بل و العربية هو في تخلي التيار السياسي المتدين عن السلطة ،و ليس في تسلقها .. أو التمسك بها .. لأن هذا التخلي جاء زهداً بعد ظفر ، وكان الظفر و التسلط في بدايته بالقوة ، و الغلبة و التأييد الشعبي .. و بعد حصار دام عشر سنوات ، و حال التيار السياسي المتدين ( حماس ) كتنظيم أو كحركة الآن ، بالقطع ، أفضل مليون مرة من حالها قبل عشر سنوات .
في المقابل ، ذابت ( لأسباب ذاتية و موضوعية ) الحركة الوطنية الفلسطينية ( فتح ) في السلطة و الحكم، و تهاوت جسور العلاقات الجماهيرية و المؤسسية المدنية لديها ، و باتت خيوط الروابط الشعبية ، بل و القاعدية مع ذات التنظيم ، واهنة كخيط العنكبوت . ولو تصورنا الوضع في فلسطين بعد خمس سنوات مثلاً ، إذا ما بقيت هذه المعادلة ، و هذه الحقيقة هي السائدة ، فأعتقد أننا سنشهد تغلغلاً أكثر ثباتاً و عمقاً للتيار السياسي المتدين ( حماس ) ، في مقابل إنحسار و تقوقع للتيار الوطني ( فتح ) داخل شرنقة السلطة و الحكم .. ( على فرضية أن الإنتخابات القادمة ستصعد الحركة الوطنية إلى سدة الحكم ، بفعل التصويت العقابي من الجماهير ضد حماس أو هروباً من الحصار ) الذي سرعان ما سيتهاوى ، بطبيعة أنه لم يعد يشبه من يمثلهم .. خاصة و أنه لن يتكمن من إمتلاك أدوات التسلط و الديكتاتورية وفرض الهيمنة المعروفة ( القوة العسكرية لحماس يمكنها أن تقارع القوة النظامية كما حدث في 2007 ) و بسبب عوامل الحصار الدولي و الحقوقي و مستوى ثقافة و تعليم الشعب ) في هذه السنوات ستكون الحركة السياسية المتدينة ( حماس ) قد دخلت بفعل ( المصالحة و الوحدة الوطنية و غيرها من الشعارات و التوازنات و بفعل الأريحية في النشاط ) إلى الأجسام الشرعية التمثيلية للشعب ككل ، بمعنى منظمة التحرير ، و مؤسساساتها ، الوظيفة العمومية بأنواعها ، العسكر و الأمن ، السلك الديبلوماسي ، الإعلام ، المجلس الوطني و ملحقاتة ( البرلمان و التشريعي ) ، بل و النقابات و الهيئات .. كل هذا سيحدث ، و الحركة الوطنية منعزلة و متقوقعة خلف أسوار السلطة و الحكم ..
هذا التصور ، يمكن ألا يحدث ، ببساطة ، بتوفر عاملين ، الأول : أن تتنبه الحركة الوطنية ، و التقدميون و القوميون ، إلى أنهم إذا إستمروا بنهجهم الحالي فهم حتماً سائرون نحو الإنقراض و الإندثار .. وضرورة الفصل بين الحكم و التنظيم ، أو الحزب .. حتى في الرؤى السياسية .و حتمية أن تتقرب الحركة الوطنية من شعبها بشكل مباشر ، في كل المجالات و الميادين ، رياضياً و إجتماعياً و إغاثياً و تربوياً و إعلامياً و ثقافياً .. و أيضاً سياسياً ..
الثاني : أن تحقق الحركة الوطنية ، بإعتبارها رائدة المشروع الوطني ، تعريفاً ملموساً و اقعياً لهذا المصطلح ، من خلال تحقيق إنجاز عبر المفاوضات أو غيرها على طريق الدولة و الإستقلال . بغير هذا ، فلن تقوم للحركة الوطنية قائمة ، و ستجد الحركة السياسية المتدينة نفسها ، متوجة على رأس هرم السلطة ، و التمثيل الشرعي ، حاصدة كل تراكم الإنجازات التي حققتها الحركة الوطنية ، متبرأة من كل أخطائها ، بهدوء و برغبة الشعب ووسط قبول إقليمي و دولي .