«وعد بلفور» لم يكن وعداً عابراً، بل إستراتيجية بريطانية..خالد الحروب

الأحد 24 سبتمبر 2017 12:32 م / بتوقيت القدس +2GMT
«وعد بلفور» لم يكن وعداً عابراً، بل إستراتيجية بريطانية..خالد الحروب



في أكثر من نقاش سياسي او اكاديمي نسمع رداً بريطانيا يكاد يكون ثابتا على الاتهامات الفلسطينية والعربية والإنسانية والعدالية التي تقول إن لندن هي التي أسست للمأساة والكارثة الفلسطينية عبر اصدارها ورعايتها وعد بلفور سنة 1917. الرد البريطاني الثابت يقول إن ظروف الحرب العالمية الاولى التي صدر فيها الوعد املت على التاج البريطاني آنذاك اصدار وعود كثيرة لاطراف عديدة ومتناقضة، وكلها كانت تهدف إلى تقوية موقع بريطانيا في الحرب، وضمان وقوف حلفاء إلى جانبها، او إغراء حلفاء آخرين بالانخراط في الحرب. ووعد بلفور، الذي سوف تمر مئويته المشؤومة في اقل من شهرين من اليوم، كان يستهدف تحقيق غايتين في هذا السياق الحربي، الأول هو إبقاء روسيا منخرطة في الحرب خاصة بعد ثورتها البلشفية التي حملت شعارات ضد الإمبريالية والتوسع واحتلال أراضي الشعوب الأُخرى، ويمكن تحقيق هدف إبقاء روسيا في الحرب عن طريق استمالة ورشوة اليهود الروس المتنفذين عبر الإعلان والوعد البريطاني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. والغاية الثانية المشابهة تماماً هي استمالة اليهود الأميركيين النافذين عبر هذا الوعد والطلب إليهم الضغط على واشنطن للانخراط في الحرب إلى جانب بريطانيا والحلفاء ضد ألمانيا وأنصارها. وضمن سياقات دبلوماسية وتقسيمية أُخرى كان ثمة غايات أُخرى كمنت خلف اصدار الوعد منها تعديل اتفاق سايكس بيكو الشهير، سنة 1916، والذي قسم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا وابقى على فلسطين كـ "منطقة دولية". ومن تلك الغايات ايضا التحلل علنياً من الغموض الذي اكتنف وضع فلسطين في الوعود المُجهضة التي اعطيت للشريف حسين عبر المندوب السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهون في سنوات 1915 و 1916، والتي أفهم من خلالها الشريف حسين ان المملكة العربية التي تأمل ان يؤسسها بعد مغادرة الاتراك الذين ثار ضدهم لصالح البريطانيين سوف تضم فلسطين والاردن وسورية والعراق. 
بيد ان الرد والزعم البريطاني الثابت الذي يحيل "وعد بلفور" إلى سياسة الحرب التي تبحث عن جمع حلفاء تكشف زيفَه الحقائقُ التاريخية، وكلها تشير إلى هذا الوعد من دون كل الوعود الأُخرى كانت له "قدسية بريطانية" خاصة. وإلى ذلك يدلل أيضا السياق التاريخي للأحداث بعد إعلان وعد بلفور وحتى مغادرة بريطانيا لفلسطين وتسليمها جاهزة للحركة الصهيونية وكيانها الدولتي الموازي الذي ظل يتشكل ويُدعم من قبل البريطانيين لما يُقارب من ثلاثة عقود. فمنذ صدوره تلاحق المندوبون الساميون البريطانيون منذ اوائل عشرينات القرن الماضي وهم يحملون تفويضاً اساسياً وشبه حصري: خلق البيئة السياسية والاقتصادية والعسكرية المواتية لتنفيذ إعلان اللورد بلفور لليهود بالعمل على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. الوعد البلفوري تعتبره اسرائيل أحد الشرعيات المؤسسة للكيان المغروس في قلب المنطقة العربية وبرغم انف شعوبها وشعب فلسطين على وجه التحديد. فبريطانيا صاحبة الوعد ومصدرته كانت الدولة المنتدبة من قبل "عصبة الأمم المتحدة" على فلسطين والأردن والعراق، وما كانت تقوم به من سياسات وقرارات كانت تفترض، كما افترض الصهاينة ومؤيدوهم فيما بعد، انه يعبر عن "الإرادة الأممية" ويحظى بشرعيتها، ومن هنا يأتي تمسك اسرائيل القوي بـ "وعد بلفور". بعد سنوات من انتصار بريطانيا والحلفاء في الحرب العالمية الاولى بدأت بريطانيا وفرنسا بدفع الفاتورة العالية للنصر المُكلف وتبدى ذلك في الشقوق المتزايدة في امبرطورياتهما الاستعمارية في آسيا وإفريقيا. وبدأت حركة التحرر من الاستعمار في العديد من البلدان تتزايد، وتلقي بالمزيد من الأسئلة حول جدوى وإمكانية وكلفة بقاء الاستعمار في الكثير من المناطق ومنها فلسطين. أهمية فلسطين بالنسبة للاستعمار البريطاني، والكلفة المترتبة عليه ومعه استعمار الأردن، لم تواز مثلا اهمية السيطرة على قناة السويس او العراق وخطوط المواصلات سواء البرية او البحرية إلى الهند. عملياً إذن لم يكن ثمة مسوغ استراتيجي كبير لاستمرار احتلال فلسطين، خاصة بالمقارنة مع الانسحاب التدريجي من شرق الأردن ودعم قيام دولة مستقلة فيه وإمدادها بالدعم المؤسساتي والمالي. المسوغ الوحيد والحصري والذي شغل بال الساسة البريطانيين خلال فترة الانتداب والاحتلال لفلسطين تجسد في كيفية تمهيد الارض لقيام كيانية يهودية مستقلة قوية عسكريا واقتصاديا وقادرة على التغلب على خصومها. 
لم تأبه السياسة البريطانية آنذاك ولا قادتها سواء في القدس او لندن بالرفض العربي والفلسطيني الشديد والمتواصل لفكرة وعد بلفور، كما لم تأبه لتطور تعبيرات ذلك الموقف عن طريق الثورات والعصيانات المتتالية بدءاً بثورات أوائل العشرينات ثم ثورة البراق سنة 1929 وليس انتهاء بالثورة والإضراب الكبير سنة 1936 وقبلها وبعدها بالحركات الفدائية المسلحة كحركة عز الدين القسام في شمال فلسطين وغيرها. كل ما كانت تقوم به بريطانيا إزاء الفلسطينيين والعرب هو مدهم بالمزيد من الوعود الدبلوماسية الكاذبة التي تحوم حول طمأنتهم بأن حقوق العرب في فلسطين سوف تُصان برغم مسؤولية بريطانيا التي لا يمكن التنصل منها تجاه تنفيذ وعد بلفور. والغريب والمؤلم في آن معا هو ان جزءاً كبيراً من القيادات العربية ان لم يكن اغلبها، خاصة في مصر وفلسطين والسعودية والأردن، كان يقبل بتلك الوعود ويضغط على القيادات الفلسطينية للبقاء والالتزام في "خط الجهود الدبلوماسية" وعدم الانجرار إلى "العنف والثورات والإضرابات". ونعرف ان إنهاء الإضراب الكبير سنة 1936 قد حدث بعد ان تدخلت القيادات العربية و"طمأنت" الفلسطينيين بأن "شرف الحكومة البريطانية" لا يسمح لها إلا بالحفاظ على وعودها بحفظ حقوق العرب. والاغرب من ذلك هو ان جزءا كبيرا من القيادات الفلسطينية، مع الاقرار بمحدودية خياراتها، كان يقبل تلك التطمينات العربية البريطانية، وينخرط في سياسة بلهاء وبالغة التساذج، خاصة وان الساسة البريطانيين كانوا واضحين ووقحين ايضا في التعبير عن أهدافهم في فلسطين. وكان على رأس هؤلاء تشرتشل نفسه الذي رفض هو ومندوبه السامي في فلسطين هربرت صاموئيل اعتبار الوفد الفلسطيني الذي سافر إلى مؤتمر سان ريمو سنة 1921 وفدا رسميا، والتقى به على أساس انهم مجرد وفد  غير رسمي يمكن الاستماع له. وفي اجتماعين متتاليين مع الوفد في لندن كرر تشرتشل على مسامعهم ان مجرد الحديث عن الغاء وعد بلفور مرفوض، وان الحديث الوحيد "العملي والمقبول" هو كيفية تنفيذ هذا الوعد مع ضمان حقوق العرب. اما ممثله في القدس، هربرت صاموئيل، اليهودي الصهيوني بامتياز، فلم يكن اقل تعبيرا ووقاحة في الإفصاح عن طبيعة مهمته في فلسطين، والتي تركزت على تعزيز الكيانية والمؤسساتية اليهودية والصهيونية وتسهيل إقامة البنية التحتية للدولة القادمة، مع ضمان تفتيت وإنهاك اي مؤسساتية او كيانية فلسطينية والعمل على إدامة الشقاق والخلاف في الجانب الفلسطيني تبعاً لسياسة "فرق تسد" بحيث تكون الاوضاع و"الوضع القائم" بعد عقد او عقدين من السنين كلها تشير إلى ان الطرف المؤهل والقادر على تسلم البلاد هو الحركة الصهيونية ومؤسساتها. وثمة حوار وثقته بيان نويهض الحوت في كتابها حول القيادات والمؤسسات الفلسطينية خلال حقبة الاحتلال البريطاني بين مستشار تشرتشل والوفد الفلسطيني إلى لندن في شهر آب  1921 يؤكد تلك السياسة البريطانية. وفيه يوجه الوفد سؤالا إلى المستشار يقول: "هل هناك اتفاق مع الصهاينة يؤدي لأن يكون المندوب السامي دائماً صهيونياً؟" فيجيب المستشار بالقول: "انا استطيع ان أؤكد لكم ان حكومة جلالته مصممة على ان المندوب السامي سيكون دائماً صهيونياً، ولكن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى ان يكون يهودياً. إن ممثل حكومة جلالته بالتأكيد يجب ان ينفذ مآرب حكومة جلالته (في تطبيق وعد بلفور). انا صهيوني لأنني خادم في حكومة جلالته". ومرة أخرى وبرغم ان خط السياسة البريطانية كان واضحا وصارماً في التأييد الذي لا مساومة فيه للحركة الصهيونية ومشروع اقامة وطن لليهود في فلسطين، إلا ان الاستجابة العربية والفلسطينية ظلت باهتة وتعقد الأمل على حكمة وشرف الحكومة البريطانية. ولم تتغير قناعات التيار الرئيس للقيادات الوطنية الفلسطينية، فضلاً عن العربية، وإيمانهم بإستراتيجية نهج الدبلوماسية والسياسة والإيمان بـ "نزاهة وعدالة" الحكومة البريطانية سواء في لندن، او وكيلتها الانتدابية في القدس. 
Email: khaled.hroub@yahoo.com