هل يتبين لنا اذن في واحدة من لحظات الكشف النادرة والمفاجأة حقاً، عند هذا المنحنى من تاريخ الصراع بل هذه الذروة من بطولتنا، بينما كان القائد الذي هو ممثل الفلسطينيين يمسك بزمام هذه اللحظة على المسرح العالمي، كما لو أن العالم يختزل ويتجرد من كل قضاياه ومشاغله، ليتحول الى مكان واحد فقط وشاغل واحد هو مأساة الفلسطينيين؟.
ولعلهم هنا في الضفة وغزة والشتات لم يشعروا مثلما مرة سابقة بهذا التماهي من التلاحم السيكولوجي كما شعروا في مناسبة أُخرى قريبة العهد، لما كانوا يلقون بجباههم على الأرض في الصلاة في ساحات القدس وشوارعها، ومرة أُخرى في الحروب الثلاث الأكثر وحشية على غزة. انهم كانوا هناك شعباً يتوحد في ذات رجل ومن ورائه على منصة العالم، فأين كان أعداؤك واختفوا يا فلسطين؟ ومن كانوا يعدون العدة لمشهد الجنازة؟
هل كانت الكلمة أيها القديس أغسطين هي التي أقوى من السيف؟ وهل إذا تكلم من كان حُضِّر لغيابهم قبل مائة عام وأصبحوا قادرين على قول كلامهم، فانه لم يعد ممكناً حتى ولو بعد مئة عام أُخرى تجاهلهم.
ولقد كانت هذه هي لحظة الكشف الثانية والأخيرة على محور الزمان، إذا كان لنا أن نكتشف أو أن ندرك أو أن نعرف بأن ظهرنا ليس على الحائط، ولسنا في أي ورطة أو مأزق أو متاهة، لأن أوراق اللعبة الحقيقية أوراق القوة توجد من بين ثنايا ما يبدو انه ضعفنا، في اختلال توازن حجم الوسائط المادية والعسكرية بيننا وبين إسرائيل. ولكن هذا الاختلال الذي لا يمكن أن يكون بديلا عن الاستراتيجية.
هذا هو اذن البديل عن فشل حل الدولتين، والمسألة بسيطة وواضحة أن قوة العناصر المكونة للاستراتيجية هي وجودنا المادي على الأرض، وان هذا الوجود إذا لم يُفضِ إلى دولة على حدود العام 1967، فان خيار العودة إلى فلسطين التاريخية هو البديل والحل الأمثل، وعلى الاحتلال الإسرائيلي ان يختار.
ولعل التاريخ يكتب في يوم وزمن قادم انه لم يعجل او يعمل من اجل نهاية المشروع الصهيوني وانتصار ونجاح المشروع الوطني الفلسطيني، مثلما فعل بنيامين نتنياهو ومعه هذه المجموعة من عتاة اليمين الإسرائيلي المتطرف.
وتعلمنا الحياة ان ما يبدو أحياناً غريباً او غير منطقي، ربما يتبين لاحقاً انه الأكثر منطقية. وقبل عشرين عاماً توصل رئيس سابق لجهاز الشاباك هو عامي أيالون وأستاذ فلسفة مقدسي هو سَري نُسيبة، الى ان هذا هو الحل الوحيد أي الدولة الواحدة ثنائية القومية. وبالتزامن مع ذلك كتب إدوارد سعيد عما اسماه "المواطنة المختلطة". وإلا ما هو الجواب عن السؤال الذي طرحه الرئيس الفلسطيني أبو مازن، أمام زعماء العالم قاطبة في ذلك المساء يوم الأربعاء الماضي: الى أين نذهب من هنا اذا كانت إسرائيل تريد إفشال حل الدولتين؟ وان غير الواقعي والعقلاني فعلاً بل المستحيل والعدمي هو بقاء هذا الانسداد في الأزمة، أو أن يتنازل الفلسطينيون عن الحرية أو لا يكون لهم دولة.
وهل استطاع في هذه الضربة السياسية اللامعة التي فاجأ فيها العالم وشعبه، ان يمنح الفلسطينيين في صباح اليوم الثاني ليس الأمل ولكن الطاقة الجديدة، من انهم ومع كل ذلك أي بالرغم من كل هذا الإحباط او اليأس، فانهم لا يزالون على الطريق بذات العنفوان والقوة والتصميم، الطريق التي طالما تحدث عنها عرفات ووصفها بأنها ليست مفروشة بالورود. وان هذا الرتل الذي ما برح منذ عهد عرفات على ذات الطريق والعزيمة والفكر الخلاق يتصارع مع المستحيل، فهل كنا إزاء عظمة الموهبة السياسية للقادة التي تحدث عنها ماكس فيبر فيلسوف علم الاجتماع الألماني الشهير؟.
واستطاع الفلسطينيون الذين وقفوا في الساحات هنا في غزة والضفة أمام شاشات العرض الكبيرة ليستمعوا الى الخطاب، ان يلمسوا عند هذه اللحظة بحاستهم الفطرية وربما بالحنين الشعبي الغريزي إلى الأب، أبي الشعب، أنه يجسد اليوم أباهم الذي يتحدث بلسانهم وعاطفتهم. وينظرون إليه بهذه الحاسة الى انه هو الملاذ، ومن كان ينتظر أو يتوقع منه أن يقدم الحل والجواب. حتى لكأنما يبدو أمام منصة العالم كما لو انه يقبض باسم الشعب العربي الفلسطيني، نحن الشعب العربي الفلسطيني، على هذا العالم، ويوقفه على قدم واحدة ولا يتنازل باسم الدبلوماسية، لكي يمارس نوعاً من السجال او النقاش مع إسرائيل الاستعمارية، ولكن ليقوم بهذا التوبيخ التاريخي غير المسبوق أمام هذا المسرح العالمي الكبير، لهذه الدولة المارقة التي تجعل نفسها فوق القانون والأخلاق.
ولقد كان المقياس عبر التاريخ لمدى جدارة القادة وتفوقهم على مستوى نوعية القيادة، يتحدد في قدرتهم على تقديم الحلول والأجوبة في مثل هذه المحن والأزمات الكبيرة التي تمر بها شعوبهم. وكان واضحاً في هذا المسار من عرفات الى الرئيس ابو مازن ان هذه الجدارة القيادية على تقديم الحلول إنما كانت هي الامتياز الذي عوض تاريخياً الاختلال في توازن القوى المادية او العسكرية بيننا وبين إسرائيل.
وان هذا التفوق السياسي هو الذي يبلغ الآن ذروة حاسمة في الصراع، ليس في عزل إسرائيل وإدانتها أخلاقياً بل وتعريتها بصورة لم يسبق لها مثيل منذ إنشائها، وإظهارها اليوم بعدم امتلاكها جواباً أو استراتيجيةً على التحدي الوجودي والثقافي والإنساني والسياسي للفلسطينيين. إذا كان الهروب من حل الدولتين يفضي من دون إطلاق رصاصة واحدة، الى نهاية مشروع اختراع إسرائيل التوراتية او الصهيونية.
وقد يرى البعض الى هذا التناص بين النقاط العشر التي طرحها الرئيس أبو مازن أمام الجمعية العام للأمم المتحدة، على محاكاتها او مقارنتها مع النقاط العشر التي اتخذها المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، ومثلت نقطة تحول في الفكر الاستراتيجي السياسي للفلسطينيين. ولكن الاستنتاج هو ان هذه التسوية بالتفاوض او الاتفاق مع إسرائيل ربما تفشل او تتعثر إلى حين على محور، ولكن المهم والذي لخصه خطاب الرئيس والنقاط العشر، إنما يبقى في كل مرة وعند كل منعطف هو في قدرتنا على مواصلة شحن هذه الطاقة التي تمثل عصب المشروع الوطني بروح جديدة خلاقة، وكان خطاب الرئيس يمثل هذه الروح.