في المُخَيِّلة الشعبية العربية تبدو أميركا كما لو أنها الحاكم الفعلي للعالم العربي. العلاقة وفقاً لهذه الرؤية تقوم على قاعدة أن أميركا تحمي حلفاءها العرب الرسميين من أعدائهم سواء كانوا دولاً، جماعات أهليه، أو تنظيمات سياسية، وفي مقابل ذلك يقوم "العرب الرسميون" بتنفيذ التعليمات الصادرة إليهم.
لا غرابة وفقاً لهذا الفهم الضيق، أن تكون أميركا مسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة تحدث في عالمنا العربي من هزيمة العام 1967 إلى فشل العرب في الوحدة والتنمية الاقتصادية.
وفقاً لهذا الخيال الجامح، انتفاضات الشعوب العربية تُصبح للبعض في اليسار العربي وللتيار القومي مؤامرة أميركية هدفها تدمير الدول العربية لحماية إسرائيل ولمنعها من التقدم باتجاه الاستقلال السياسي والاقتصادي وامتلاك القوة.
الفقر والفساد والبطالة وانعدام الحرية تختفي كأسباب حقيقية لهذه الاحتجاجات ليحل مكانها شيءٌ من مخلفات الحرب الباردة عندما كانت أميركا تُلقي بكل ثقلها من أجل تحقيق سياسات هدفها الأساس هزيمة المعسكر الاشتراكي.
لهؤلاء، الاتحاد السوفييتي لم يمتْ أو تم استبداله بعدو جديد اسمه "الإرهاب" حتى تستمر أميركا في سياسات الحرب الباردة خدمة لمصالحها.
فشل الانتفاضات العربية، بالنسبة للإسلاميين على مشاربهم المتعددة، تتحمله أيضاً أميركا التي "تآمرت" مع "حلفائها" في معسكر الثورة المضادة للإطاحة بهم بعد وصولهم للسلطة في مصر وتونس، ومشاركتهم الفاعلة بها في ليبيا واليمن.
هذا الفهم لدور أميركا في العالم العربي من قبل النخب العربية بشقيها، العلماني والإسلامي، هدفه الأساس أن تغسل هذه النخب يديها من "الدمار" الذي أصاب العالم العربي، لذلك لا غرابة أن تتنكر هذه النخب لدورها في فشل الثورة المصرية مثلاً. العلمانيون، يساريين وقوميين، ينكرون أن فشل الثورة كان سببه الأساس اختيارهم للتحالف مع الجيش والانقلاب على رئيس منتخب بدلاً من التأسيس لنظام ديمقراطي عبر احترام نتائج صناديق الاقتراع.
والإسلاميون ينكرون أن الثورة فشلت بسبب سلوكهم السياسي (تحالفهم مع السلفيين ومعاداتهم للقوى الثورية، محاولاتهم للتضييق على الحريات بكتابة دستور على مقاسهم وحدهم، والتحالف مع الجيش على أمل أن لا ينقلب عليهم).
وبالمثل تُنكر هذه النخب دورها في "خراب" سورية. السوريون بالنسبة "لليسار والقوميين" لم يثوروا على نظامهم بسبب رغبتهم بالخلاص من الاستبداد والفساد، والتأسيس لنظام عادل يحترم كرامتهم، ولكن بتحريض ودعم أميركي هدفه ضرب "محور" الممانعة، وبالتالي كان من واجبهم، ليس مطالبة النظام السوري بالإصلاح، ولكن دعمه في مواجهة شعبه والوقوف في وجه المؤامرة الكونية.
الإسلاميون بدورهم ينكرون أن لجوءهم للسلاح، تحالفهم مع قوى خارجية معادية للديمقراطية، خطابهم الطائفي، اقتتالهم الداخلي، وحكمهم المُستبِد في المناطق التي سيطروا عليها كانت سبباً في فشل الثورة وتحولها إلى حرب أهليه.
النظام لم يسقط، بالنسبة لهم، لأنهم فشلوا في تشكيل بديل مقنع للشعب السوري، ولكن لأن أميركا رفضت تقديم سلاح متقدم لهم، ومنعت حلفاءهم العرب القيام بذلك، لأنها ببساطة لا تريد للإسلاميين أن يحكموا.
أميركا وفق هذه الرؤية، ليست مجرد لاعب محوري في الإقليم العربي، ولكن اللاعب الوحيد الذي يقرر مصير الناس فيه.
تبعاً لذلك، العلاقات بينها وبين حلفائها العرب لا تقررها المصالح المشتركة للطرفين، ولكن تقررها أميركا التي تملي شروطها على حلفائها وتأمرهم بأن يقوموا بما لا يريدون في الكثير من الأحيان.
هذه الرؤية خاطئة وتفتقد لِبينات قوية تدعمها خصوصاً منذ انتهاء الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي.
الحقيقة أن الدلائل تشير إلى خلافات محورية في الكثير من الملفات بين أميركا وحلفائها العرب منذ تلك الفترة، وأن بعض العرب قد اختاروا طريق التحالف مع إسرائيل من أجل ثني أميركا عن بعض سياساتها.
الملف النووي الإيراني مثلاً، سعت أميركا لحله من خلال التفاوض في الوقت الذي كان فيه بعض العرب وإسرائيل "يضغطون" من أجل توريط أميركا في حرب مع إيران بهدف تدميرها كما حدث للعراق.
في مصر، وبحسب شهادة الجنرال سامي عنان الذي كان في زيارة لأميركا أثناء الثورة المصرية، أن الإدارة الأميركية أبلغته بشكل رسمي أنها تأمل عدم تدخل الجيش المصري ضد المتظاهرين، وأن السفيرة الأميركية، وبحسب شهادة مقربين من الرئيس محمد مرسي، قد أبلغته بضرورة التوصل لحل مع المعارضة لقطع الطريق على انقلاب محتمل للجيش المصري.
وفي اليمن لا تتفق أميركا والعربية السعودية على كيفية التعامل مع الحوثيين.
أميركا ترى أن تبعيتهم لإيران غير قائمة وأن الحل للصراع اليمني يجب أن يكون من خلال الحوار معهم وعبر تلبية جزء من مطالبهم وإشراكهم في السلطة، في حين ترى العربية السعودية أنهم تابعون لإيران وأن الصراع معهم يجب أن يحسم عسكرياً قبل أي تفاوض محتمل.
وفي سورية، دعم بعض الدول العربية كل من حمل السلاح ضد النظام السوري، في حين أن أميركا رأت في ذلك خطراً عليها لأن "الأسلحة" وقعت في أيدي "داعش" و"النصرة" وجماعات مؤيدة لكليهما.
وفي العراق طلبت أميركا من حلفائها العرب إقامة علاقات قوية مع نظامي المالكي والعبادي من أجل التأثير على كلا النظامين سواء في العلاقة مع إيران أو مع السنّة العرب، لكن الحلفاء اختاروا التسليم بالنفوذ الإيراني فيه.
حتى عندما تتعلق المسألة باستقرار المنطقة العربية، ترى أميركا ومنذ أحداث ١١ أيلول، أن الاستقرار لا يمكن ضمانته إلا من خلال وجود أنظمة تقبل بالتبادل السلمي للسلطة.
احتلال أميركا للعراق العام ٢٠٠٣ كان ضمن هذه الرؤية الأميركية للمنطقة، لكن حلفاء أميركا من العرب وأعدائها في نفس الوقت، وبسبب تعارض ذلك مع مصالحهم، قاموا بكل ما أمكنهم لإفشال المشروع الأميركي.
"القاعدة" لم تسقط من السماء على العراق ولكنها دخلته من كل الدول التي لها حدود معه، بعضها حلفاء لأميركا وبعضها أعداء لها.
أميركا إذاً، لا تأمر والحلفاء ينفذون. أميركا تطلب، والحلفاء يقررون إن كانت هذه الطلبات تخدم مصالحهم. إن كانت كذلك، يُنفذون ويأملون أن تُنفذ أميركا أمانيهم بالمقابل عندما يطلبون المقابل منها، وإن كانت تتعارض مع مصالحهم، لا ينفذون، ويقاومون بكل الطرق المتاحة لهم وبما لا يهدد وجودهم.
هذه أبسط قوانين العلاقات الدولية التي تتجاهلها النُخب العربية لأنها بكل بساطة ترفض أن تتحمل أية مسؤولية عن الأحداث التي تجري في العالم العربي.
الدول العظمى، حتى لو كانت "سوبر باور" مثل أميركا، إمكانياتها تبقى محدودة، وهذا بدوره يضع حدوداً لنفوذها ولقدرتها على فرض سياساتها.
مصالح الدول العظمى الأخرى تضع أيضاً قيوداً على سياسات أميركا التي لا يمكنها تجاهل هذه المصالح.
النظام الأميركي نفسه يفرض أيضاً قيوداً على سياسات الحكومة الأميركية التي ترغب بأن "تبدو" كما لو أنها داعمة للقيم الديمقراطية في العالم.
هذه القيود تجعل من العلاقة بين أميركا وحلفائها العرب أكثر تعقيداً مما هو موجود في "المُخيلة" الشعبية العربية، أو فيما يحاول بعض النخب العربية تكريسه كثقافة شعبية.
هذه القيود لا تجعل العلاقة بين أميركا وحلفائها العرب متكافئة لأنها ليست كذلك بسبب الفارق في القوة بمصادرها السياسية والاقتصادية والعسكرية والمعرفية، ولكنها تعطي حرية للحلفاء العرب، بأن يقرروا سياساتهم وفقاً لمصالحهم في أغلب الأوقات لا وفقاً للمصالح الأميركية.