قد يبدو مبكراً عند كتابة هذه المقاربة في التوقيت، التحقق مما جرى في هذه المرة أو الجولة الجديدة من لقاءات السيد كوشنير والوفد المرافق له الى عملية السلام، مما قاله أو حمله الرجل معه إلى بنيامين نتنياهو والرئيس أبو مازن. لكن انطباعاً أولياً بناء على التحليل اكثر منه على المعلومات، تحليل الوقائع في هذه الحالة او الإشارات، ربما يعطي انطباعاً بأن شيئاً ما جديداً سمعه الرئيس أبو مازن مساء يوم الخميس، الأمر الذي انعكس في التصريح المقتضب الذي أدلى به، وعكس قدراً من التفاؤل الحذر حينما تحدث عن عملية صعبة ومعقدة ولكنها ممكنة.
ولكن ربما الإشارات الكاشفة لما يمكن ان يعطي قدراً من هذا التفاؤل الحذر حتى الآن، هما الاتصالان الهاتفيان اللذان أجراهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والعاهل الأردني جلالة الملك عبد الله الثاني، قبل وصول كوشنير الى إسرائيل وفلسطين بالرئيس أبو مازن بعيد لقاءيهما في الرياض وعمان بالمبعوث الأميركي، وهما اتصالان حرص الرجلان على ما يبدو وضع الرئيس الفلسطيني في صورة انطباع إيجابي، كَوَّناه عن طرح جديد وسمعاه من هذا الوفد، عززه ودعمه تصريح من الرئيس الأميركي نفسه دونالد ترامب، بالتزامن مع كل ذلك من تأكيده ووثوقه من تحقيق السلام، في رسالة واضحة أراد ترامب إرسالها في هذا التوقيت الى الطرفين الرئيسيين المعنيين بهذا النزاع إسرائيل والفلسطينيين. بعد ان ارسل الفلسطينيون في الأسابيع الأخيرة الماضية اكثر من رسالة الى واشنطن، تعبر عن خيبة أملهم ونفاد صبرهم من المماحكات التي تحدث.
وبدا واضحاً على الأقل من لغة ولهجة الرئيس الفلسطيني المجافية للدبلوماسية أحياناً، ان الفلسطينيين عازمون على الذهاب الى قلب الطاولة وانتهاج مقاربة جديدة تتمثل بتطبيق الخطة "ب".
وكانت هذه الخطة تقتضي إظهار الاستعداد للقتال حتى النهاية، ضد أي محاولات للانقضاض على مبدأ المبادرة العربية للسلام، او استبدال المقاربة الفلسطينية العربية لحل النزاع كما أكدت عليها القمة العربية في الأردن بما يسمى بالتسوية الإقليمية، والعمل بكل الوسائل لنزع الشرعية عن هذه المحاولة. وفي هذا الإطار نفسه لم يكن مستبعَداً ان يذهب الرئيس ابو مازن حتى الى ادارة الظهر لمبعوثي الرئيس الأميركي، واعتبار ما يسميه ترامب الصفقة التاريخية عملية غير ذي صلة بالواقع. وهو الأمر الذي كان يعني تحولا دراماتيكيا في الموقف الفلسطيني بشكل عام، ربما وصل الى حد التلويح بانقلاب التحالفات في الشرق الأوسط ككل.
فهل استمع الرئيس الذي بدا عليه الشعور بالغضب واضحاً خلال الأسابيع الأخيرة، من ولي عهد السعودية والعاهل الأردني عبر المكالمات الهاتفية التي أجرياها معه، ولاحقاً مساء يوم الخميس مباشرة من السيد كوشنير في المقاطعة، ما يهدئ أخيرا او يطمئن الرجل، حتى انه ذهب بعد هذا اللقاء الى استعادة تفاؤله السابق، وقوله انه يقدر الجهود التي يبذلها الرئيس ترامب وسوف يعمل معه رغم الصعاب لتحقيق الصفقة التاريخية.
وبدوره وصف نبيل أبو ردينة المستشار الإعلامي للرئيس، أن المحادثات مع كوشنير كانت بناءة. وهكذا فان السؤال الجدير ان نطرحه هنا اذا ما كان المبعوث الأميركي تلفظ أو نطق اخيراً بالكلمة السحرية حول اعتراف إدارة ترامب أخيراً بحل الدولتين؟ وأنهم أعطوا تعهداً بالضغط على نتنياهو لوقف الاستيطان؟.
وحتى الآن في هذا الوقت المبكر من المحادثات لم يرشح شيء حول هاتين المسألتين يستطيع تأكيده، ولكن المؤكد ان الفلسطينيين استمعوا إلى شيء او كلام جديد مختلف هذه المرة عما ظلوا يسمعونه من مبعوثي ترامب. وقد لا نعرف الآن حدود هذا الكلام ولكن ما هو مؤكد أن بعض أجزاء وعناصر الخطة "ب"، التي شرع بها الرئيس الفلسطيني سوف يواصلها الرجل بصورة موازية لإمكانية نجاح الجهد الأميركي، بإعادة استئناف العملية السلمية على أُسس جديدة ترضي الفلسطينيين.
ولعلنا نشير في هذا السياق الى تحركين لافتين هنا اقدمت عليهما القيادة الفلسطينية، الاولى زيارة وزير الخارجية رياض المالكي قبل أيام الى بغداد، والثانية الزيارة التي يزمع الرئيس نفسه القيام بها الى أنقرة لمقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، علماً أن أردوغان كان في الأردن أيضاً قبل أيام.
فهل كان واضحاً ان المالكي في بغداد كان يعني طرق بوابة إيران؟ وان كانت هذه المبادرة تتم بصورة غير صريحة وغير مباشرة، ولكن الإشارة والهدف بل والرسالة لا يمكن تخطئتها. واذا كانت الانعطافة الموازية في الإقليم إنما هي التي تتم عبر هذا التقارب غير المسبوق بين إيران وتركيا، والذي عبرت عنه الزيارة النادرة التي قام بها رئيس الأركان الإيراني لأول مرة منذ الثورة في ايران عام 1979، فان المبادرة الى لقاء الرئيس أردوغان انما تستهدف
تحاشي الذهاب الى الدوحة مباشرة في هذا الاستقطاب. حتى وان كانت المهمة هي إقامة الحجة على حماس والذهاب الى أردوغان لإقناعها بأن المصالحة هي اقل الخيارات كلفة في هذا المأزق الذي يمر به الجميع في غزة.
ولكن هل نتحدث عن توازي أضلاع لخريطة جيواستراتيجية إقليمية جديدة في دلالات هذه الإشارات؟ اذا كانت المعادلة الإقليمية تطرح هذا التقابل او التوازي بين تحالف يضم تركيا وإيران، مقابل تحالف يضم السعودية ومصر. وهذا ربما ما يفسر مبادرة ولي العهد السعودي الاتصال بالرئيس الفلسطيني، الذي ترافقت فيه هذه المبادرة مع تحويل السعودية مبلغ ثلاثين مليون دولار، ضمن التزاماتها تجاه السلطة الى وزارة المالية الفلسطينية.
ولكن هل نضع الأزمة التي رافقت زيارة الوفد الاميركي الى القاهرة في السياق نفسه، غير بعيد عن المناورات التي يمارسها الكل مقابل الكل؟ واذا بدا واضحاً لتبخر الآمال التي توقعوها هنا في غزة، بعد ما سمي بالتفاهمات بين حماس ومصر ومحمد دحلان، واعتبار الإعلام الحمساوي ان ذلك لم يعد اليوم سوى سراب؟.
فهل يبدو واضحاً اليوم ان كابحاً غامضاً او عاملاً غير مرئي، ربما كان وراء إحداث هذا التحول الذي يفسر هذا التغير في مقاربة مبعوثي ترامب، في محادثاتهما الأخيرة مع الفلسطينيين؟ وان هذا العامل او المتغير ربما ليس سوى التداعيات او النتائج الجانبية وغير المباشرة للأزمة الخليجية، وثمن استقطاب حاد هو الذي أملى على الأميركيين، وربما على طرف محدد ووازن في الإقليم التدخل لإعادة دوزنة وضبط الانحرافات.