وكنت بيننا عظيماً يا حاج محمود...د. أحمد يوسف

السبت 26 أغسطس 2017 12:58 م / بتوقيت القدس +2GMT
وكنت بيننا عظيماً يا حاج محمود...د. أحمد يوسف



ودَّعت مدينة رفح بوم الجمعة الخامس والعشرين من أغسطس، والثالث من ذي الحجة، الحاج محمود محسن؛ المربي والداعية الإسلامي وأحد رجالات العمل الخيري، والذي صعدت روحه الطاهرة إلى باريها بعد عمر ناهز التسعين عاماً، حيث صلى عليه (رحمه الله) في مسجد الهدى كبار الشخصيات من الوجهاء والدعاة ورجالات الإصلاح، وقيادات وأبناء الحركة الإسلامية على مستوى قطاع غزة، وكانت جنازته مهيبة، من حيث أعداد من شاركوا فيها، حيث وسد جثمانه الثرى بمقبرة حي تل السلطان. 

الحاج محمود محسن: نبذة تاريخية 

أسماءٌ كبيرة، وعناوينٌ نضالية بارزة من الإسلاميين تربت تنظيمياً في بداية انطلاقتها الحركية في بيت الحاج محمود محسن؛ الرجل الفاضل صاحب الخلق الكريم، واليد المبسوطة بالعطاء وفيض النعيم، والمفعم بالحيوية الحركية، وأول مسئول تنظيمي لحركة الإخوان المسلمين في مدينة رفح.. ولعلي هنا أشير إلى بعض طلائع الشباب الذين التحقوا بالحركة بفضل الحاج محمود واحتضانه لتوجهاتهم وتطلعاتهم الإسلامية، وصار لهم مكانة مرموقة في مشروع الجهاد والمقاومة وقيادة الحركة الإسلامية على أرض فلسطين، وأخص منهم الأخوين: د. موسى أبو مرزوق؛ أول رئيس للمكتب السياسي لحركة حماس، والقيادي الأبرز بين رجالاتها، وكذلك الشهيد د. فتحي الشقاقي؛ مؤسس حركة الجهاد الإسلامي. 

 
يا حاج محمود: ذكراك في قلبي، وذكرك في فمي 

لقد عرفنا الحاج محمود محسن– المجدلاوي الأصيل - في طفولتنا جاراً عزيزاً، لم يبخل في العطاء وتقديم المساعدة لجيرانه، حيث لم نعرف عنه أنه منع ماعوناً عنده عن أحد، ولم يتوقف ببابه صاحب حاجة إلا ووجد فرجاً عنده، وكأن حاله يقول: (ما نقص مالٌ من صدقة). 

كما عايشناه في فترات شبابنا، وكان هو صاحب الفضل علينا في الالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين بعد نكسة عام 67، وذلك بعد أن أصيب جيل الشباب أمثالي بصدمة الهزيمة ووقع الإذلال المهين برؤية جيش المحتلين، وذلك بعد أن كانت آمالنا معقودة على وعود العرب، وتطمينات الرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله) بالعودة الظافرة إلى ما اغتصبه العدو الإسرائيلي من أرضنا فلسطين، وتحقيق النصر والفتح المبين. 

ومرت الأيام متسارعة تطوى زهرة شبابنا، لنعود وقد ارتقى بعضنا درجات متقدمة على سلم المواقع القيادية، لنرقب عطاء هذا المربي الكبير وحصاد بيدره العامر بالرجال، ونلحظ أثر السنين الطويلة بأثقالها عليه، خاصة بعد أن تخطى عمره الثمانين عاماً، حيث وهن منه العظم واشتعل رأسه شيباً، وإن كانت روحه - أمد الله فيعمره - ما تزال على حيويتها وخيريتها وقناعتها وولائها لدعوتها وإيمانها العميق بأن نصر الله قريب. 

بدأنا الدعوة في رفح في بيت هذا الرجل، وكنَّا لا نتجاوز 17 أخاً في أواخر عام 1967م، حيث تلقينا الدعوة على يد ثلاثة من الدعاة، وهم: الشيخ أحمد ياسين، والأستاذين أحمد الغرابلي وعبد الفتاح دخان.. واليوم وبعد أربعة عقود ونصف العقد، تقف هذه الدعوة كالمنارة شامخة، حيث تجاوزت أعداد منتسبيها والمناصرين لها في مدينة رفح وحدها العشرة آلاف أو يزيد، وأصبح لكوادرها حضوراً في كل مرافق الحياة المجتمعية والمؤسسات الحكومية، والفضل في ذلك – بعد توفيق الله –هو لهذا الداعية الذي عمل بصمت بعيداً عن الأضواء والمديح، وملكت طيبته أفئدة الشباب، حيث كان أول من فتح بيته ليكون - بعد نكسة عام 67- محضناً لجيل الشباب أمثالي. 

 
الحاج محمود في مشهد طفولتي.. 

تعود ذاكرتي إلى الوراء إلى السنة الرابعة من عمري، حيث كانت عائلتي تعيش في غرفة واحدة بسقف من ألواح الزينكو.. وفي عام 1956م، منحتنا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) سكناً بديلاً من غرفتين وبسقف أفضل من الكرميد، وفي مكان أكثر سعة وتحضراً من المكان الأول، وإن كان لا يبعد عنه كثيراً. 

كان مسكننا الجديد مجاوراً لمسكن الحاج محمود محسن، وبالتالي جمعتنا حارة واحدة بمخيم الشابورة، فكانت مدارج طفولتنا وملاعب صبانا هي في هذا الحي.. وعندما وقع العدوان الثلاثي عام 1956م، سقط قطاع غزة في قبضة جيش الاحتلال الإسرائيلي، ووجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع عساكر اليهود المدججين بالسلاح. 

ومن شدة الهلع الذي أصابنا نظراً لغياب أبي عن البيت، التجأنا مع عدد من الجيران إلى منزل الحاج محمود، حيث وجدنا عنده شيئاً من الشعور بالأمان، وربما – أيضاً - وفرة في الطعام. 

وعندما بدأ الجيش في مداهمة المنازل، والسؤال إذا كان هناك جنود أو متطوعون بيننا، كان الحاج محمود هو من تصدى للرد والحديث معهم.. وعند رؤية أولئك اليهود، شاهدت أمي ترتجف مع غيرها من النساء، أما أنا وباقي الصغار فكنا نحاول التخفي بينهن، وإن كان بعضاً منّا قد بال في ثيابه من شدة الخوف والهلع. 

في الحقيقة، أنني ومنذ أن تفتحت عيني على الدنيا، وأنا أرى هذا الرجل مميزاً في خُلقه وعطفه، وعظيم نخوته وكرمه، وأيضاً في وعيه ورباطة جأشه، كان باراً بوالدته الطاعنة بالسن، وكانت أجواء أسرته محافظة وقليلة الاختلاط إلا مع بعض الجيران من ذوي السلوك الحسن. 

مواقف ومشاهدات وألغاز قبل نكسة عام 1967م: 

كنا نشاهد الحاج محمود في الصباح والمساء، أحياناً وهو ذاهب إلى عمله أو عائد من صلاته، كان هادئ الطبع وقوراً، ولا تخلوا طلته من ممازحة أو ابتسامة وسلام لجيرانه. 

كثيرةٌ هي المواقف الإنسانية التي شاهدت فيها هذا الرجل متميزاً عن باقي الجيران وسكان الحي.. ذات يوم لمح حزناً في وجه والدتي، فسألها: ماذا بك يا أم أحمد؟ قالت: الشكوى لغير الله مذلة يا حج.. المدارس على الأبواب، وليس لدينا من المال ما نكسوا به الأولاد. قال: يا حجه تعالي إلى الدكان وخذي كسوة الأولاد، إلى أن يُفرِّج الله عنكم الكرب. وفعلاً، ذهبت أمي وجاءت لنا بالكساء والفرحة. 

وهذا الموقف كان سلوكاً حميداً في الرجل، ولم يقتصر فعله الكريم هذا عائلة واحدة بل طال خيره الكثيرين من فقراء الحي ومحتاجيه. 

في تلك السنين من منتصف الستينيات كانت أحوال معظم الفلسطينيين في المخيم بالغة الفقر، حيث استوى الجميع في درجة العوز والفاقة، ولم يكن هناك – بالطبع - بين التجار من يغامر بالبيع لمن يعلم أنه غير قادر على السداد، وكان الشعار المعلق على مدخل معظم المحلات التجارية هو "الدين ممنوع، والعتب مرفوع، والرزق على الله".. صحيحٌ، كانت أوضاعنا كباقي أوضاع اللاجئين صعبة، ووالدي رحمه الله كان يعمل كحارس في وكالة (الأونروا) براتب لا يزيد عن سبعة جنيهات مصرية، وهي بالكاد كانت تحفظ كرامتنا عن ذلِّ السؤال، وتوفر لنا العيش بحدِّ الكفاف. 
كان الحاج محمود (رحمه الله) يتعاطى مع الناس بمنظور قرآني (فنظرةٌ إلى ميسرة)، حيث كان يجد عنده بعض أصحاب الحاجات من جيرانه ضالتهم مع بشاشة الوجه والدعاء بتفريج الكرب. 

كان الحاج محمود ميسور الحال نسبياً، كونه تاجراً ناجحاً، وصاحب سمعة طيبة بين الناس تجعل من دكانه مقصداً للكثيرين منهم، وكانت تجارة القماش تدر عليه ربحاً وفيراً يسمح له بالعيش الكريم وتفقد فقراء جيرانه، كما كان أولاده متميزين في دراستهم بين أقرانهم، ولعلي كنت أستفيد مما كان يشتريه ولده محمد من مجلات أطفال؛ مثل مجلة سمير، ومجلة ميكي ماوس، حيث كنا نلعب ونقرأ معاً، ونحل الكلمات المتقاطعة. 

كان الحاج محمود محسن (أبو محمد) وعائلته "ناس في حالهم"، ليس من عادتهم التشاجر مع الجيران، كما جرت معظم أحوال الناس بالمخيم، وكان الحاج "عنصر إصلاح" بين جيرانه.. وفي إحدى المرات، وقع شجار بين أهلي وجار لهم، وجاء الحاج محمود ليصلح بينهم، إلا أن والدي (رحمه الله) كان مستفزاً فنهره، وتطاول عليه بالكلام بشكل أحزنني، وأشفقت على الحاج صاحب الخلق الكريم، والذي انسحب من المشهد دون أن يقول شيئاً، الأمر الذي رفع من مكانته وأعلى قدره في عيني، وجعلني أحمل له احتراماً خاصاً طيلة عمري، فأجدني أقبل رأسه كلما التقيته، وكأن ذلك تكفيرٌ عن غلطة أبي بحقه، ورد اعتبارٍ لمواقف كريمة أخرى. 

كنت في شبابي وقبل التزامي الإسلامي أشاهد بعض رجالات الأمن من الفلسطينيين العاملين مع الإدارة المصرية التي تشرف على قطاع غزة يراقبون بيت الحاج محمود (رحمه الله)، ويسترقون السمع على نوافذ غرفته، وكانت هذه المشاهد تثير حفيظتي، لأنها سلوك غير قويم ومثار استغراب، وكنت أسأل، فيأتيني الجواب: "بيقولوا عنه إخونجي"، وعند الاستفسار: "إيش يعني إخونجي؟"، كان الرد: "بيقولوا إنهم بتآمروا على الرئيس جمال عبد الناصر.. وبدهم يقتلوه!!"،"عشان هيك هم مراقبين 24 ساعة".!! بصراحة، من خلال جيرتنا الطويلة للحاج محمود، لم أكن مقتنعاً بذلك، بالرغم من عشقي حتى درجة الهوس بالرئيس عبد الناصر. 

ظلت هذه المشاهد لرصد تحركات الحاج محمود ومراقبة بيته ودكانه، والتلصص عليه أحياناً في منزله من قبل العناصر الأمنية، تدفعنا أحياناً لتحذير أولاده، بالقول: خذوا بالكم.. هناك من يرصد تحركات والدكم. فيأتي الجواب: أبي يعرف ذلك. 

 
الرحيل إلى المعسكر الإسلامي 

كانت أحلام العودة إلى أرضنا وديارنا تراودنا ليل نهار، وفجأة مع الهزيمة العسكرية والنكسة التي أصابت الدول العربية، فقدنا كل شيء، ولم نعد بذلك على قناعة بالفكر القومي، وعاطفياً تراجع تعلقنا بعبد الناصر وأطروحاته السياسية، كما انهارت بنيتنا الفكرية، وأصبحنا في حالة من الفراغ الأيديولوجي. 

في هذه المحطة من الحيرة واليأس في نهايات عام 1967م، وقفت أنا وعدد من الشباب الناصريين نتساءل: أين نمضي؟ وهل بهذه الهزيمة ضاعت فلسطين إلى الأبد، أم أن هناك سبيلاً لاستعادتها؟ 

لم أكن أصلي آنذاك، وإن كان هناك شعور داخلي يشدني – دائماً – للعبادة، ويحثني للذهاب إلى المسجد.. كنت محباً للشعر والأدب، فبدأت في فراغي أنظم أشعاراً وطنية، وأبحث عن الكتب التي أجد فيها بُغيتي من الفكر والأدب. 

في مدرسة بئر السبع الثانوية برفح كان ملتقانا نحن الشباب، الذين حملنا أفكاراً ناصرية، وحسَّاً وطنياً عامراً بالحيوية، وكانت فكرة البحث عن بدائل أيدولوجية تبعث فينا الأمل من جديد، وترشدنا بأن هناك طريقاً آخر سيأخذنا حتماً إلى فلسطين. 

بدأنا نلتقي ونقرأ، ونتحاور فيما تصل إليه أيدينا من الكتب، ونتبادل الأخبار حول مستجدات الحالة السياسية.. سمعنا عن الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) ودروسه الإسلامية، بنكهتها المميزة في مسجد الهدى بمخيم يبنا، وكذلك عن بعض أسماء الإخوان المسلمين، الذين كانوا مطاردين ومراقبين من أجهزة الأمن المصرية في قطاع غزة، وكذلك عن الشهيد سيد قطب وكتاب "معالم في الطريق"، وعن سلسلة كتب محمد قطب والشيخ محمد الغزالي، والأستاذ البهي الخولي، وعن بيت الحاج محمود محسن، الذي كان بمثابة دار الأرقم لرجالات الإخوان من جيل الخمسينيات. 

ومع هذه التوليفة من الشباب والكتب وجاري الطيب الحاج محمود محسن، الذي كان يأتي إلى بيته الشيخ أحمد ياسين وآخرون من رجالات الإخوان المسلمين، والذين كان يطلق عيهم في الحارة اسم (الإخونجية)، بدأت رحلتي أنا والإخوة: د. فتحي الشقاقي، د. موسى أبو مرزوق، أ. جمال أبو هاشم، العميد حمودة جروان، القاضي إبراهيم أبو مر، أ. إبراهيم معمر، أ. عيسى الأسمر، المهندس توفيق أبو عيادة، أ. إبراهيم فرحات، أ. إبراهيم علوان، م. فؤاد النحال، د. علي شكشك، أ. عبد الرحمن السدودي، المستشار خميس أبو ندى.. كانت هذه هي النواة الأولى من جيل الشباب التي تلتقي الشيخ أحمد ياسين من حين لآخر في بيت الحاج محمود، وذلك على مائدة طعامه العامرة دائماً بالخيرات، وروح التفاؤل والكلم الطيب. 

كانت هذه الجلسات هي للمدارسة الدينية، والتفاكر والتأطير التنظيمي، وقد وجدنا فيها ما كنا نتطلع إليه لملء فراغ مشاعرنا الثورية وتطلعاتنا الوطنية.. لقد أعادنا الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) بأحاديثه الدينية الشيقة عن بطولات المسلمين، وملاحمهم التاريخية، ومجدهم التليد إلى حلبة النضال والتشمير عن الساعد؛ لأن ساعة العمل والبناء لفلسطين والتجييش والإعداد للزحف قد حانت، وبدأت بوصلتنا نحو القدس تعمل من جديد. 

كانت فلسطين ووعود تحريرها هي من حركت تعلقنا بعبد الناصر وتفانينا في حبه، وكانت فلسطين - وبعد أن خابت آمالنا بهزيمة مصر - هي أيضاً من جاءت بنا إلى الإخوان المسلمين، الذين جعلوا القضية الفلسطينية على رأس اهتماماتهم، وأعلوا من شأنها لتصبح القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية.. ومع ما وجدته من أدب راقٍ في كتابات الشهيد سيد قطب وأخيه محمد (رحمه الله)، تعمقت علاقتي أكثر بهذه الحركة، وكذلك بمكتبة الحاج محمود محسن، التي حوت من الكتب الفكرية وكتب التراث ما كان بالنسبة لي هو درراً نفيسة، أشبعت حاجاتي الأدبية، وشكلت مسار فكري الإخواني في ذات الوقت. 

في العام 1951م دخل الجيش المصري إلى قطاع غزة، وتسلل معهم عدد من دعاة الإخوان المسلمين، وبدأوا بالعمل الدعوي، وتشكيل خلايا سرية للإخوان، وكان الحاج محمود محسن (رحمه الله) هو من أوائل من التحقوا بالجماعة في عام 1952م، على يد الشيخ إسماعيل المصري من مدينة الإسماعيلية، وكان العمل في ذلك الوقت يجري بشكل سري، وباسم الإسلام والدعوة إليه، وليس باسم جماعة منظمة هي الإخوان المسلمين. 

ومما يتذكره جيل الحاج محمود محسن عن تلك السنوات في الخمسينيات، هي تلك الهبة الشعبية العارمة، التي شارك فيها الإخوان المسلمون والشيوعيون في رفض مشروع التوطين في سيناء، وكانت هذه الوقفة الاحتجاجية في عام 1954م هي من وضع نهاية لذلك المشروع التآمري على القضية الفلسطينية. 

وأيضاً في تلك الفترة التي أعقبت حظر الجماعة بمصر في الخمسينيات، والتي تمَّ فيها إعدام ستة من قيادات الإخوان المسلمين كان منهم الشيخ محمد فرغلي والأستاذ عبد القادر عودة، حيث تعرض بعدها الإخوان في قطاع غزة للملاحقة والمراقبة، الأمر الذي أدى إلى شلِّ عمل الجماعة وتوقفها.. كانت هذه الفترة، والتي امتدت حتى عام 1967م؛ أي عام النكسة، هي من أقسى ما تعرض له رجالات الإخوان في قطاع غزة من حملات التشويه والتشهير، حتى إن وسائل الإعلام المصرية كانت تطلق عليهم لقب "إخوان الشياطين".!! 

ومن المعروف أن الإخوان في قطاع غزة وبعد الضربات التي لحقت بالحركة في مصر، اضطروا لإغلاق الشُعب الخاصة بهم، واقتصار تحركهم – آنذاك - تحت اسم "جمعية التوحيد"، والتي كان يرأسها الأستاذ ظافر الشوا، وكانت تهتم بتربية الشباب وتوعيتهم، وكان مقرها في غزة، وليست لها فروعٌ في أماكن أخرى. 

ويذكر أن بعض دعاة الإخوان المسلمين وعلمائهم قد زاروا قطاع غزة، ضمن بعثات الوعظ والإرشاد من الأزهر الشريف بمصر، وأسهموا في نشر الوعي الديني ووضع اللبنات الأولى للفكر الإخواني، والعمل على تأسيس الجماعة في القطاع، وكان من بينهم: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد الأباصيري، والشيخ علي جعفر، والشيخ محمود عيد، إضافة للشيخ حسين المصري؛ والذي كان مقيماً بيننا في رفح بشكل دائم، وكان يعتبر مرجعاً دينياً وفقهياً للجماعة، وقد تزوج من فلسطينية أنجبت له الكثير من الأولاد والبنات، كان منهم: د. محمود حسين؛ أمين عام جماعة الإخوان المسلمين بمصر، وعضو مكتب الإرشاد. 

ولا شك أن جيلي من الشباب كان له معرفة كذلك برفقاء درب الحاج محمود محسن من جيل الخمسينيات في مدينة رفح، وهم: الشهيد محمد يوسف النجار، الشيخ لطفي الهمص، الحاج عبد ربه المغير، د. أحمد رجب، الحاج إبراهيم سالم (أبو أنور)، الشيخ محمد عوض الله (أبو العبد)، أ. أحمد أبو هاشم، أ. يعقوب نصر، والمهندس خليل زعرب، أ. زكي عوض الله، الحاج محمود أبو هاشم (أبو جمال)، الشيخ رجب العطار، الأخ صالح أبو حطب، الشيخ عز الدين طه، الحاج طاهر الجمل، المربي الفاضل الأستاذ محمد عطوة زعرب، الشيخ عبد الله ذياب لافي، الحاج موسى برهوم.. وآخرون ممن كانوا يمثلون كوكبة الرعيل الأول لجيل العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، وممن كانوا أصحاب الفضل علينا في دعوتنا إلى هذا الدين، وتوجيهنا بالحكمة والموعظة الحسنة، والأخذ بأيدينا إلى الهداية والصلاح. 

ومن ملاحظاتنا على ما كان يمتلكه الحاج محمود (رحمه الله) من طاقة دعوية ومبادرات، أنه كان أول من فكر في بناء مكتبة إسلامية في رفح، بحيث كانت توفر الكتاب الإسلامي للقارئ وأصحاب الرغبة في الشراء، وقد تعهد الحاج محمود بجلب الكتب الإسلامية الهادفة من القدس والخليل ومصر، وقد شهدت مكتبته إقبالاً كبيراً، وسدَّت فراغاً كان ملحوظاً على مستوى احتياجات الدعوة والدعاة. 

وخلال سنوات الانتفاضة الأولى، كان الحاج محمود (رحمه الله) له مساحة من العمل الميداني تنسجم مع عمره ومكانته، فلم يؤثر الغياب وراحة البيت، بل كان له دور في دائرة الفعل والحدث، حيث كان يؤدي دوره في حدود الاستطاعة، وكان يتعهد توزيع بعضاً من بيانات الحركة (المناشير) بعد صلاة الفجر في مربعه السكاني (الحارة)، دون أن يعرف القريبين منه ذلك.  

البذل والعطاء بعضٌ من سجاياه 

ذكر لي أحد الإخوة من رعيل الزمن الجميل الذي كان عليه الإخوان، أنه عندما شرع في تأثيث بيت الزوجية في أوائل الثمانينيات، مر كعادته بدكان الحاج محمود بسوق المخيم.. سأله الحاج أبو محمد عن حاله وأحواله، فأبلغه أنه ذاهب لشراء جهاز بوتجاز وأنبوبة غاز، وهو يتجهز الآن لاستكمال حوائج المنزل ومتطلبات العرس. 

قال الحاج له: دعني أساعدك بخبرتي في البيع والشراء، وأخذ بيده إلى أحد المحال التجارية التي فيها ما يبحث عنه، وأخذ يفاصل التاجر، ويأخذ معه ويعطي حول سعر الجهاز، إلى أن توصل معه إلى قيمة معلومة.. تركه وذهب إلى محال آخر قريب يبيع نفس المعدات، وساومه في السعر، وأخذ منه عرضاً أفضل، ثم دخل إلى محل ثالث وهو مسلح بعرضين سابقين لسعر الجهاز، وكان أن جلب السعر الأفضل مما سبق. 

اشترى الجهاز وجرة الغاز بمهارة التاجر المحترف، ثم قدَّمهما لأخينا العريس، وقال له: هذه هدية مني إليك، وعون من أخٍ لأخيه، وبورك عليك الزواج.    

* كان بيننا في الستينيات أخ يتيم يعيش مع أمه واثنين من أخواته، ولا معيل للعائلة، فكان أن تعهد الحاج بعمل كريم لوالدته، بحيث يدر عليهم ما يستر أحوالهم، ويمنعهم عنهم الفاقة وسؤال الناس. 

استمرت هذه الرعاية الكريمة للأسرة لسنوات طويلة، حتى كبر أخونا، وأصبح مسئولاً كبيراً في الحكومة الفلسطينية. 

* أتذكر كذلك أنه فتح متجره المتواضع لأكثر من أخٍ للعمل معه، بهدف توفير دخل يستر أحوالهم، حيث كانت أحوال الفلسطينيين في الستينيات بالغة الفقر والمسغبة، ولكن الرجل بخلقه الكريم آثر أن يتقاسم لقمة العيش مع إخوانه، الذين كانوا يشاركونه قناعاته الدينية والفكرية، وكان لهم نِعم القدوة والمثال. 

* عائلات كثيرة من فقراء مخيم الشابورة في رفح كانت تقصده، بغرض طلب الصدقة وتفريج الكرب، فكان لا يبخل ويجود بالقدر الذي يسمح به الحال.. كما كنت ألحظ تفقده لعائلات بعينها في مناسبات الأعياد، حيث كانت يده عامرة بفعل الخير وبذل المعروف للمحتاجين. 

أوصيكم بالحاج محمود محسن خيراً.. 

ذات يوم من عام 2006م، جاء ذكر الحاج محمود (رحمه الله) في حديث بيني وبين الأخ إسماعيل هنية؛ رئيس الوزراء السابق، حيث أشرت في تلك الجلسة إلى فضائل هذا الرجل على جيل الشباب أمثالي في الستينيات، وذكرت كيف تعهدنا بالدعوة، ووفرَّ لنا محاضن التربية الأخوية السليمة، وأننا عشنا في كنف رعايته كأسرة واحدة، وكان لنا (رحمه الله) بمثابة الأب الحاني، الذي يتابع شئوننا ويتفقد أحوالنا وأهلينا بالسؤال، ويأخذ بأيدينا إلى طريق الخير وفعل المعروف.. فقال الأخ أبو العبد هنية أن الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) أوصاه بالحاج محمود (أبو محمد) خيراً، حيث إن الشيخ أحمد يحفظ للحاج محمود كل ما ذكرت من مناقب وخصال، ونحن نتعهده بكل ما يتطلبه واجب الوفاء لإخواننا، الذين سبقونا بالإيمان ومن ذوي الفضل علينا.. وفي كلمة العزاء بمسجد الهدى وقبل الصلاة على الجنازة كرر الأخ أبو العبد هذه المعاني الجميلة في سيرة الرجل، وذكر ما أوصي به الشيخ أحمد قبل وفاته بتعهد الرجل والوفاء له.   

ستظل سيرته (رحمه الله) مشكاة لكل من سار على دربه، وأدرك تجليات عمله في طاعة الله والدعوة إليه.. لقد كانت مواقفه تذكرنا بمشهد صحابة رسول الله وبسيرة ذلك الرهط الكريم من الصالحين والتابعين. 

لم أتخلف عن زيارته والاتصال به من حين لآخر، وكنت وأنا أتحدث معه أشعر أنه برغم عمره الذي شارف التسعين عاماً، إلا أنه بكامل قوته الذهنية، ولم يفقد شيئاً من ذاكرته، التي ظلت حيَّة إلى أن وافاه الأجل، وهذه نعمة من ألله وفضل وكرامة لهذا الرجل الصالح. 

اللهم تغمد شيخنا الجليل الحاج محمود بواسع رحمتك، وأسكنه يا رب فسيح جناتك، وألهم أهله وذويه وإخوانه الذين عرفوه وجاهدوا معه الصبر والسلوان.