كيف تحمي الدول الصغيرة مصالحها؟ محمد ياغي

الجمعة 18 أغسطس 2017 04:09 م / بتوقيت القدس +2GMT




ليست كل الدول الصغيرة  تشبه إسرائيل التي تمتلك أحدث وسائل القتال في العالم والقادرة بفضل التكنولوجيا المتقدمة على هزيمة الجيوش العربية مجتمعة. 
وليست كل الدول الصغيرة  كإسرائيل التي تمتلك «لوبيات» ضغط تجعل كل سياسي غربي يَعد الى العشرة قبل أن يأتي على ذكرها بسوء. وليست كل شعوب العالم يهودية، يشعر الغرب بعقدة ذنب تجاههم بسبب الهولوكست الذي إرتكبه البعض منهم وإدارة البعض الآخر ظهرة لهم أثناء المآساة التي أصابتهم.
إسرائيل هي الاستثناء للقاعدة عندما يتم الحديث عن الكيفية التي تحمي بها الدول الصغيرة نفسها ومصالحها من الخطر القادم من جيران أقوياء أو حتى بعيدين ولكن طامعين في مقدراتها. 
أذكر أني استمعت أثناء مراقبتي للانتخابات الرئاسية في أوكرانيا العام 2014، لحديث أستاذ جامعي أوكراني قال فيه أن أوكرانيا عليها تقليد إسرائيل، بمعني بناء تحالف قوي مع أميركا وإمتلاك أفضل وسائل التكنولوجيا من أجل مواجهة روسيا. كان ردي عليه أن إسرائيل هي استثناء يستحيل تقليدة، وأن الأفضل لهم حل المشاكل مع روسيا بالحوار لأن العالم لن يكترث بهم إذا حدثت حرب مع روسيا.
في العلوم السياسية، يقال بأن الدول الصغيرة تحمي نفسها بالتحالف مع دول قوية إقليمياً أو عالمياً. التحالف يتم بناءً على تنازلات تقدمها الدول الصغيرة تحرمها من استقلالها السياسي الحقيقي. التنازلات قد تشمل السماح لهذه الدول بإنشاء قواعد عسكرية على أراضيها، تقديم معلومات إستخبارية، تغيرات هيكلية في إقتصادها تناسب مصالح هذه الدول، وحتى فتح سجون على أراضيها لهذه الدول كما حدث بعد أحداث ١١ سبتمبر.   
أثناء الحرب الباردة (١٩٤٥-ـ ١٩٩٠) كانت هذه الصورة شديدة الوضوح. الدول الصغيرة التي حلقت في الفلك السوفيتي بنت إقتصادا قائما على الملكية العامة  للدولة لوسائل الإنتاج، بينما تلك التي حلقت في الفضاء الغربي بنت اقتصادا رأسماليا. تصويت هذه الدول في الأمم المتحدة ومجلس الأمن كان يتبع الموقف السوفيتي أو الأميركي. 
هذه الدول، أو دول الساتلايت كما تسمى أحيانا، كانت تابعة بكل معنى الكلمة لأميركا أو روسيا. أميريكا دعمت إنقلابات عسكرية في الدول التي كانت تتبعها لكنها خرجت عن إرادتها بسبب الإنتخابات كما حدث في تشيلي ١٩٧٣ وإيران ١٩٥٤، وتدخلت مباشرة في دول أخرى لقمع المعارضين لحكومات تدعمها. الإتحاد السوفيتي  تدخل في المجر العام ١٩٥٦ وتشيكوسلوفاكيا العام ١٩٦٨ عندما قرر زعماء البلدين في حينه إعتماد سياسات مستقله، وتدخل في أفغانستان ١٩٧٩ لحماية حكومة تابعة تم الإنقلاب عليها. 
بعد اتهاء الحرب الباردة لم يتغير الوضع كثيراً. الدول الصغيرة لا زالت تعتمد على دول أخرى قوية لحمايتها. الكويت إعتمدت على أميركا لتخليصها من الإحتلال العراقي له العام ١٩٩١. سورية سلمت نفسها كلياً لإيران وروسيا إبتداءً من العام ٢٠١٣ بعد أن إجتاحاتها حركات الإسلام السياسي المتطرف المدعومة  من خصومها. 
في مقابل ذلك نلاحظ دول صغيرة محدودة العدد، مثل قطر والإمارات العربية، تتصرف بدرجة عالية من الإستقلالية السياسية. 
قطر مثلاً لها علاقات تجارية قوية مع إيران. الدولتان تشتركان في تقاسم حقل غاز الشمال، واحد من أكبر حقول الغاز في العالم، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق. لكنها في المقابل، تحاربها في اليمن وسورية. 
قطر تستضيف قاعدة العديد العسكرية الأميريكية، أكبر قاعدة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط التي تقوم بخدمة نشاطها العسكري في ١٧ دولة منها سورية والعراق وأفغانستان. لكنها، قطر، تسمح لقناة الجزيرة وللاعلام الذي تدعمه بشكل عام، بتوجيه إنتقادات لاذعة للسياسة الأميركية. وهي تدعم «حماس» وجماعات أخرى موجودة في سورية تعتبرها أمريكا «إرهابية.»
الإمارات العربية بالمثل تستضيف قاعدة الظفرة الجوية العسكرية للولايات المتحدة، لكنها لا تتفق مع أميركا في الكثير من سياساتها. أمريكا مثلاً كانت تفضل إستمرار الإخوان في حكم مصر، لكن الإمارات وقفت ضدهم وساعدت على تقليص نفوذهم الإقليمي. وهي تنسق مع روسيا في ليبيا بعكس رغبة أمريكا. وموقفها في اليمن لا ينسجم كثيراً مع رغبة أمريكا في تقاسم جميع أطراف الصراع للنفوذ فيه. 
قطر والإمارات يمثلان حالتين لا تنسجمان مع الرؤية الكلاسيكية للعلاقات الدولية فيما يتعلق بالدول الصغيرة. هما دولتان مستقلتان الى درجة كبيرة في سياساتهما الداخلية والخارجية، رغم صغرهما. وبغض النظر عن الخلاف بين الدولتين في فهمها لمصالحهما، هما لا يتبعان الولايات المتحدة كما يطيب للبعض القول، بل يحاولان التأثير في سياساتها الخارجية بكل الطرق المتاحة لهما. 
لاحظنا مثلاً الجهد الذي بذلته قطر للتأثير على الولايات المتحدة من أجل التدخل عسكرياً في ليبيا وسورية على قاعدة أن من واجب المجتمع الدولي التدخل لحماية الشعوب عندما تتعرض للإبادة (Responsibility to protect). ولاحظنا كيف حاولت الإمارات التأثير على إدارة أوباما ومن بعدة إدارة ترامب من أجل دعم الرئيس السيسي في مصر. قطر نجحت في المسألة الليبية وفشلت في السورية. والإمارات فشلت مع أوباما ونجحت مع ترامب. المهم ليس الفشل أو النجاح هنا، لكن حقيقة أن هذه الدول سعت للتأثير في سياسات أميركا ولم تتلق تعليمات منها كما هو حال الدول الصغيرة الأخرى. 
كيف تمكنت هاتين الدولتين الصغيرتين من القيام بذلك؟ 
الإمكانيات الاقتصادية الضخمة للبلدين سمحت لهما بتنويع مصادر الحماية الأمنية لبلديهما. هاتان الدولتان تمكنتا من جعل العديد من دول العالم القوية يعتمد عليهما إقتصاديا. لم تكتف قطر والإمارات بالاستثمار في كبريات الشركات العالمية، وإمتلاك عقارات شاسعة في العديد من الدول الغربية، ولكنها شكلت مدخلاً مهما للدول الغربية للخروج من الأزمة الإقتصادية التي عصفت بها العام 2008. قطر والإمارات، ومعهما العربية السعودية والكويت، قدمتا ثلث ما إحتجاته الدول الأوروبية من مساعدات مالية نقدية للخروج من أزمتها. المساعدات المالية كانت مشروطه بحصول هذه الدول على صوت أعلى في المؤسسات الغربية المالية مثل صندوق النقد الدولي. 
قطر، على سبيل المثال، تمكنت من تعزيز أمنها بتوقيع عقود اقتصادية بعيدة المدى (مدتها خمسة وعشرون عاماً) مع الصين وبريطانيا ودول أخرى لتصدير الغاز لها. الإمارات تصدر أكثر من 90 من نفطها لدول شرق آسيا، وهي تعتبر من أهم المراكز المالية العالمية. 
هذه العلاقات الإقتصادية المتشابكة مع دول قوية ومؤثرة في السياسات الدول، جعلت من ضمان أمن قطر والإمارات العربية مصلحة دولية لا يرغب أحد بالمس بهما لما لذلك من إنعكاسات مهمه على إقتصاديات الدول الكبيرة. وهذا بالمقابل، وفر لكلا البلدين حرية في إتخاذ قرارات سياسية قد لا تتناسب مع سياسات الدول الكبيرة، لكنها في المقابل تخدم مصالح البلدين وتضمن إستقلالهما.
قطر والإمارات هما أيضاً إستثناء لا تتمكن جميع الدول الصغيرة من تقليدة لحماية استقلالها السياسي، لكنهما أيضاً نموذج لكيفية إستغلال الدول الصغيرة لمواردها من أجل تعزيز أمنها وضمان استقلالها.