خريف العام 1994:
كانت تبدو في الأفق مثل غمامة ناصعة البياض عذراء بلون الفجر، هي بنت الصبح. وفي الطريق إليها يخفق القلب كما لو انها العودة الى الفردوس المفقود يتحقق، واردد مع أمير الشعراء احمد شوقي عند اصبع ابوللو الجميل إله الحوار الموسيقى في أربعين العمر: "ويا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيت بك الشبابا".
ثم سيسألني عرفات من كان هو الأسطورة الشامخ كالجبل، حتى لأبدو متكورا على نفسي من شدة الخجل: "ألا تستحق وتستاهل؟ "وأجيب لقد حاربت أيها القائد العظيم اربع حروب هي مجموع جيوش هذه المنطقة، على القوس الممتد من خليج العقبة حتى رأس الناقورة، لأجل ان تنتزعها وتدخل إليها.
استأذن عرفات من كانوا وأبقاني ثم قال لي: انهم يعتقدون بانني سوف اكون مجرد رئيس للبلدية على هذه المدينة، ولكننا من هنا سوف نقيم الدولة الفلسطينية ونؤسس لبنائها. وفي الأول من تموز العام 1994 سوف اكتب في الصحيفة ان الإله كما تذكر التوراة عاقب النبي موسى، بان حكم عليه ان يراها ولكن قدمه لن تطأها، اما انت يا عرفات فانك تدخلها مثل دخول الأبطال الفاتحين.
وجميعهم قد دخلوا إليها من الجنوب من رفح التي اسمها في الأصل رفيح على حافة الصحراء الممتدة، التي تُكون شبه جزيرة سيناء. الاسكندر المقدوني الذي جرح فيها وصلاح الدين وحتى نابليون الذي أقام فيها ثلاثة أيام، ومن بعده الجنرال البريطاني الشهير اللنبي وموشي دايان، الذي جاء إليها من سيناء وكأنه يكفر عن خطيئة اليهود الأولين الذين خافوا من دخولها، وقالوا لموسى ان فيها شعبا جبارين.
البحث عن الدولة في روح المدينة:
كان الوقت تقارب منتصف الليل وأصر مشكورا الصديق الطيب عبد الرحيم ان يوصلني بسيارته الى البيت، الذي كنت اسكنه في حي النصر. كانت المدينة الصاخبة المكتظة قد هجعت للتو الى الهدوء والنوم. كم هي جميلة هذه المدينة الصعبة والمشاكسة حين تستسلم أخيرا الى هذا الخدر في الليل من النعاس والنوم. ولعلها بخلاف كل المدن الساحلية، أقرانها كانت ولا تزال تحافظ على تقاليدها وطبعها، مدينة للنهار والشمس وليست لليل. وبينما كانت السيارة تخترق الشوارع الفارغة تقريبا في هذا الوقت من الليل، بدا الرجل في هذه الرحلة القصيرة وكأنه يكتشف المدينة لاول مرة من خارج جدوله المزدحم بجوار عرفات، وقال لي: انك هنا في هذه المدينة تكاد تشعر بانها هي فلسطين التي تحس بدفئها وتلامسها بيديك عن قرب، فلسطين التي تُختزل في مدينة كما لو انكم لم تروها من قبل.
خريف العام 2005:
دعانى الرئيس ابو مازن وعدد محدود من الزملاء الكتاب، لم يتجاوز عددهم على ما اذكر السبعة الى لقاء تشاوري في المنتدى، جلسنا حول طاولة وضعت في الهواء الطلق. كان الحدث الرئيسي الذي احب الرئيس بتواضعه المعهود ان يستمع الى آرائنا حوله، هو الانسحاب المفاجئ الذي اقدم عليه آنذاك ارييل شارون من غزة. قال الرئيس وهو يشعل سيجارة فيما بدا عليه الانفعال واضحا، اريد ان استمع اليكم بماذا تقترحون من افكار حول الاستفادة من هذا الحدث؟.
كان الوقت مساء والجو العام مفعما بالتفاؤل ولكن مع الامل المشوب بقدر غامض من القلق او الحذر، وبدا ذلك واضحا على الرئيس الذي ربما كانت فكرة ما تختمر لديه، واراد ان يختبر هذه الفكرة في هذا النوع مما يسمى "العصف الفكري". وكان الزملاء بدؤوا في مداخلاتهم حينما حضر الاخ محمد دحلان فجأة وانضم الينا.
واليوم، لعلنا جميعا كنا على ادراك واضح بان شارون اجل خطوته الى ما بعد التخلص من عرفات، الذي كانت كراهيته الشديدة له تحول بينه وبين اعطاء عرفات هذا الانجاز او النصر. ولكن ما غاب عن هذا الادراك ان هذا النصر الذي اعطاه للرئيس ابو مازن كان يشبه القنبلة الموقوتة، وان انفجارها هو مسألة وقت.
وبعيدا عن المثقفين امثالنا او الدعوة الى قدر من العصف الفكري، تفرغ الاخ محمد دحلان الى ملف الانسحاب الاسرائيلي من غزة، وحشد مجموعة واسعة من الخبراء والتكنوقراط والاكاديميين، لدراسة هذا الملف على مدار عدة اسابيع. لكن الزمن او الوقت كان يخبئ ما يمكن ان يحدث احيانا او ربما غالبا، ما يمكن تسميته او ما يطلق عليه علماء التخطيط الاستراتيجي "التخطيط لغير المتوقع". وهذا ما حدث حين وقع الانفجار الكبير بعد ذلك من غزة، واليوم يمكن اختصار اللعبة الفلسطينية التي تنعقد حول المصير الغزي بأنها ثلاثية.
تحليل:
وهؤلاء اللاعبون الثلاثة هم: الرئيس ابو مازن الذي يمثل الشرعية السياسية وصاحب القرار المعترف به دوليا وعربيا، ولا يمكن تجاوزه او التعدي على صلاحياته. واللاعب الثاني هي حركة حماس التي تملك القوة الفعلية على الارض، ولا يمكن هي الاخرى تجاوز واقع سيطرتها وتفوقها العسكري على الارض. اما اللاعب الثالث فهو الخصم المباشر للرئيس علنا، والخصم الباطني على المدى البعيد لـ"حماس"، ويملك التحالف الاقليمي الوازن مع مصر والامارات، وهما اللاعبان الرئيسان المناوئان لقطر وتركيا حلفاء "حماس".
لكن اما وانه في مثل هذه العمليات او الألاعيب المركبة، يلاحظ فرويد ابو التحليل النفسي، ان اربعة اطراف يشاركون عادة في اتمام هذه العملية. فمن هو اللاعب الرابع هنا؟.
في برنامج قناة الجزيرة المستحدث والمبتكر الذي يجاري الإعلام التفاعلي، فان الامر يطرح على التصويت. فهل هو هنا أي اللاعب الرابع الرئيسي المصري عبد الفتاح السيسي؟ والذي قام مؤخرا بإدخال شاحنات الوقود لمحطة توليد الكهرباء في غزة في مقابل الضغوط التي مارسها الرئيس على "حماس".
ام ان هذا اللاعب الرابع هي اسرائيل نفسها اذا كان اسم اللعبة بدءا من غزة اليوم، وحول غزة هو التسوية الاقليمية التي يكون مدخلها مرة اخرى من غزة. وهي ايضا الدولة ولكن بخلاف الدولة التي ظلت الى الآن في التصور والمخيلة والخطاب الفلسطيني.
ولكن اذا كان انسداد توازن الضعف المتبادل بين الاطراف المشاركة في هذه العملية، انما هو الذي يطرح تدخلا ما ربما هذه المرة دوليا. ام ان الامر ينتظر كلمة لم تقلها السعودية بعد وينتظرها الجميع، باعتبارها تلعب في هذه القصة "بيضة القبان؟" ام هو انقلاب التوازنات في الاقليم نفسه الذي بدأت ملامحه تلوح بانضمام قطر وتركيا الى روسيا وايران؟، والذي بدأ يقلق اميركا الذي ربما يعجل بطرح تصورها المتوازن والاجمالي لحل الصراع.


