وثيقة «حماس» بين البراغماتية والتطور الفعلي ..مهند عبد الحميد

الثلاثاء 30 مايو 2017 02:27 م / بتوقيت القدس +2GMT
وثيقة «حماس» بين البراغماتية والتطور الفعلي ..مهند عبد الحميد



وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي صدرت عن «حماس»، مؤخراً، أثارت حالة من الجدل السياسي والفكري، بعد أن قدمت الحركة إجاباتها على الأسئلة التي طرحها الواقع والتجربة على حد سواء. معظم التقديرات والتحليلات تحدثت عن تغير في فكر وسياسات «حماس»، تغير قَرّبَها من الواقعية السياسية التي اعتمدتها منظمة التحرير منذ عقود، وخفف من وطأة الجمود الفكري الذي كان يضعها في مصاف الأصوليات الدينية المتطرفة. لا شك في أن هناك ثمة تطور في التفكير السياسي للحركة، اعترف به كثيرون باستثناء الرئيس ترامب الذي وصم الحركة بالإرهاب ودمجها مع القاعدة و»داعش»، غير أن نتنياهو فاق الجميع في إنكاره كل تقدم معتبراً الوثيقة نوعاً من الخداع ولم يتردد في تمزيقها، مغمضاً عيونه عن التغيير. ولم يكن موقف نتنياهو وحكومته مفاجئاً وهم الذين اعتادوا ركوب كل تطرف وكل خطأ فلسطيني ويقدمونه باعتباره الوجه الحقيقي للشعب الفلسطيني. 
ماذا عدا على ما بدا، لتقدم حركة «حماس» وثيقة تتجاوز إلى حد كبير ميثاقها الذي صدر في العام 1987؟ هل جاء التغيير تعبيراً عن تطور في الفكر والتفكير السياسي داخل الحركة وفي المستوى القيادي الأول أم أنه جاء بفعل اعتبارات براغماتية داخلية متأتية عن ضغوط  خارجية؟ 
هنا، ثمة فرق جوهري بين تطور طبيعي ناجم عن امتلاك الحركة لديناميات داخلية فكرية وتنظيمية تأخذ في الاعتبار المتغيرات والتحولات الخارجية وتوظفها بما يخدم مصلحة الشعب الوطنية، وبين تغيير يأتي كصدى للخارج وبمعزل عن ديناميات التطور الداخلي. ما حملته وثيقة المبادئ الصادرة عن «حماس» ينتمي للبراغماتية الفلسطينية بقضها وقضيضها. ولا تنفرد «حماس» بهذا عن الكل الفلسطيني في الانتماء للمدرسة البراغماتية في حقلي السياسة والفكر. فقد سبق لحركة «فتح» ومنظمة التحرير أن اعتمدتا البراغماتية السياسية التي فسرت حينذاك باعتبارها تطوراً في الفكر السياسي. وفي واقع الحال كانت استجابة لنصائح ومطالبات الأصدقاء في الدول الاشتراكية، ونصائح ومطالبات دول أوروبية، فضلاً عن حث رأسماليين فلسطينيين قيادة المنظمة للاعتدال في مواقفها كي تكون مقبولة عند الإدارة الأميركية. 
نعم، سياسات المنظمة لم ترتبط بتطور حقيقي في الفكر السياسي، وهي تفتقد للسند الفكري أثناء وبعد التغيير، وانفصال مواقف قواعد التنظيمات عن مواقف مراكز القرار. بل وانتماء  قواعد التنظيمات إلى مواقف أخرى، وانتقالها إلى مواقف وأفكار أخرى، كانفصال قواعد «فتح» والتنظيمات اليسارية - بتفاوت عن وثيقة-  إعلان الاستقلال، وقرارات المجالس الوطنية التي سجلت تغييرات كبيرة. 
التغيير الذي قدمته حركة «حماس» لم يرتبط بمقدمات تقود إلى التغيير كإجراء مراجعة علنية تشارك فيها قيادة وكوادر التنظيم وقاعدته الاجتماعية ورموزه الفكرية. بقي كل شيء داخلياً، ولا أحد يعرف كيف أدخلت التعديلات على المواقف السياسية بتوافق الاتجاهات المتباينة. وما هي الأسس الفكرية التي استندت عليها الأكثرية في إخراج وثيقة غيرت العديد من سياسات الحركة. وللتوضيح فقد دفع صعود الإخوان المسلمين وتبوئهم الحكم في مصر إلى تغني «حماس» كونها فرعاً للإخوان، ودفع سقوط الإخوان ومطاردتهم في مصر وإخراجهم عن القانون بعد أقل من عام إلى «الاستقلال» عنهم. وللتوضيح أكثر، لنعد إلى أهم المتغيرات الفكرية الواردة في الوثيقة. 
أولاً: اعتماد  الهوية الوطنية الفلسطينية على حساب الهوية الدينية دون القطع معها. في هذا السياق، أعادت «حماس» تعريف نفسها من «حركة مقاومة إسلامية» إلى «حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية» مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها. وتحولت فلسطين من «أرض وقف إسلامي لا يجوز التصرف بها لأنها تخص أجيال المسلمين كما ورد في الميثاق القديم، إلى «فلسطين أرض عربية إسلامية» في وثيقة المبادئ. وتغير الهدف من «إقامة دولة الإسلام» في فلسطين، إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على قاعدة التعددية والشراكة الوطنية وقبول الآخر. 
وتتحدث الوثيقة عن فلسطين مسرى النبي ومهد المسيح التي كانت وستبقى نموذجاً للتعايش والتسامح والإبداع الحضاري. النصوص تعزز الهوية الوطنية والشخصية الوطنية والدولة الوطنية ومعها التعدد الديني والسياسي والثقافي متجاوزة بذلك الدولة الدينية. هذا التغيير يفتح الأبواب على القوى الوطنية السباقة إلى إبراز الهوية الوطنية الجامعة التي أدمجت داخلها الهويات الفرعية بما في ذلك الهويات الدينية. 
ثانياً: تجاوزت الوثيقة أخطر بند فكري، شكل على الدوام «كعب أخيل» الفكر الإسلامي، ذلك الموقف السابق الذي دمج حركة «حماس» بالأصولية الإسلامية المتطرفة، وهو موقف العداء لليهود كيهود. خلافاً لذلك جاء في الوثيقة تؤكد «حماس» أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم، وهي لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً وإنما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المحتلين المعتدين، وترفض اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي. هذا التصويب شديد الأهمية، بل يكاد يكون أهم عنصر في الوثيقة كونه ينزع ذريعة ساهمت وتساهم في شحذ الأصولية القومية والدينية اليهودية وامتداداتها داخل المؤسسة الإسرائيلية الرسمية بالعداء للشعب الفلسطيني وباستباحة حقوقه وموارده، وبالتغطية على الطبيعة الكولونيالية الاستعمارية لدولة الاحتلال. كأن الوثيقة تقول: إن صراعنا مع إسرائيل ليس صراعاً دينياً، ونحن حركة تحرر وطني، ضد الاستعمار الإسرائيلي وهدفنا ليس القضاء على اليهود، بل الخلاص من الاستعمار والعنصرية والقمع والنهب. وانسجاماً مع ذلك ليس من المستبعد أن تدعو الوثيقة القادمة إلى نضال مشترك يساهم فيه إسرائيليون ضد الاحتلال والعنصرية والسيطرة على شعب آخر كما فعلت منظمة التحرير منذ سبعينيات القرن العشرين. 
ثالثاً: تعتبر حركة «حماس» أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة مستقلة وعاصمتها القدس على خطوط الرابع من حزيران 1967 مع عودة اللاجئين والنازحين هي صيغة توافقية وطنية مشتركة. هنا مربط الفرس، حين تميز «حماس» بين البرنامج المشترك «التوافقي» أو برنامج الحد الأدنى الوطني وبين البرنامج الخاص بهذا التنظيم أو ذاك.  والاعتراف بوجود وضرورة وجود برنامج مشترك تطور مهم جداً، يعني أن إمكانية دخول حركة «حماس» على خط الشراكة ليست مستحيلة كما جرى الاعتقاد سابقاً. غير أن ما وراء هذا النص هو إقرار «حماس»  بحدود إسرائيل دون الاعتراف بها، بل تؤكد «حماس» أنها لن تعترف بإسرائيل. موقف «حماس» شبيه بالبرنامج المرحلي للمنظمة الذي قبل بإقامة دولة على أي جزء يتراجع عنه الاحتلال دون اعتراف أو تفاوض.
... يتبع 
Mohanned_t@yahoo.com