يا بنت العميل ...سما حسن

الخميس 25 مايو 2017 08:55 ص / بتوقيت القدس +2GMT



في المرحلة الابتدائية والحديث عن بداية ثمانينيات القرن الماضي، لم نكن نختلط بثلاث شقيقات في المدرسة، كن يجلسن سوياً ويتحركن كبنت واحدة أي متلاصقات ومتجاورات وكأنهن يسرن في طابور عسكري، والسبب أنهن كن يتلقين الضربات والقذائف من هنا وهناك من باقي التلميذات، علاوة على الشتائم والإهانات اللفظية التي لا تليق بمدرسة، ولكن هذه الألفاظ صدرت من تلميذات صغيرات استخدمن هذه الألفاظ المهينة للتعبير عما يعتمل في نفوسهن إزاء هؤلاء الشقيقات، والحقيقة أن التلميذات قد نقلن الكراهية والحقد من ذويهن، فهن كن اصغر من ان يعرفن معنى كلمة "عميل أو جاسوس".
عرفت من زميلات اكبر مني ان هؤلاء الشقيقات هن بنات لعميل شهير في مدينتنا الصغيرة، وتعجبت من كون العميل معروفا ومشهورا على عكس ما كنت أتخيل، وقد عرفت حين كبرت انه كان يعمل في الشرطة التي عينتها الإدارة المدنية في غزة، وكانت تربطه علاقات خاصة بقائد المنطقة العسكري والذي كان يحمل اسما وهميا على غرار " أبو رائد وابو العبد"، وقد كان هذا العميل يحصل على رشاوى من المواطنين الذين يلجؤون اليه  لتسهيل تصاريح السفر والزيارة للنازحين المغتربين من ابنائهم، ولم يكن يفعل أكثر من ذلك ولكن الناس أطلقوا عليه اسم العميل رغم حاجتهم له.
مع انطلاق انتفاضة الحجارة قامت القوة الضاربة للانتفاضة كما كان يطلق عليها وقتها بردع العملاء، وردع العملاء كان يعني ان يتم اختطافهم ليلا من بيوتهم ونقلهم لاماكن نائية مثل المزارع أو الخرائب ويتم التحقيق معهم عن علاقتهم بالاحتلال، ويتم ايضا ضربهم وتكسير اطرافهم لكي يتراجعوا عن السير في الطريق الذي بدؤوه، ورغم ذلك فقد ظلت ظاهرة العملاء موجودة وبقينا نسمع في المدرسة مسبة " يا بنت العميل"، أما في الشارع فحدث ولا حرج.
ظل هذا العداء قائما ومستمرا لذوي العملاء، هذه الفئة البريئة التي أوقعها القدر في هذا الموقف وجعل من حياتها معرضا للتعنيف بسبب الأب أو الأم أو الابن، فكثيرا ما كانت تقع الأم في وحل العمالة أيضا، وتم قتل الكثير من النساء على خلفية التعاون مع الاحتلال وفي كل الحالات فالأبناء وخصوصا البنات يحملون هذا الوزر مدى حياتهم، ويتغاضى المجتمع الذي يدعي انه مجتمع مسلم عن قوله تعالى في كتابه العزيز" ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقوله أيضا "كل نفس بما كسبت رهينة"، وهذا العداء أصبح يأخذ شكلا جديدا مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح أكثر عنفا وقسوة من العداء في المدرسة والشارع وفي كل مكان على أرض الواقع.
 بعد الايقاع بثلاثة متهمين مباشرين بقتل الشهيد الاسير المحرر مازن فقهاء استماتت ابنة احد العملاء من خلال حساب والدها على موقع "الفيس بوك" في الدفاع عن نفسها وبأنها لم تقترف ذنبا بسبب الهجوم عليها، وبدت كأنها تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة امام هجوم كاسح من رواد موقع " فيس بوك" ولست أحسبهم أبرياء ولا ملائكة، والغريب أن التطاول على هذه الفتاة المسكينة قد جاء من رجال وشباب نصبوا أنفسهم كقضاة، وبدؤوا في محاكمتها على ذنب لم تقترفه، فهي كانت مخدوعة مثلهم بوالدها، لأن العميل يكون قد استخدم القناع الزائف وهو قناع الطيبة والبراءة، وكان يتعامل معها من خلال هذا القناع، فلم لا تحب والدها وهو سبب وجودها في الحياة ومركز الكون بالنسبة لها، كيف نطلب منها ألا تدافع عنه باستماتة محزنة، وكيف نطلب منها ألا تبكي وتنهار ونحن نجلدها ونذبحها.
 قبل عامين تماما أقدم أحد العرسان وفي قاعة العرس وفيما تجلس عروسه الجميلة إلى جواره، أقدم على تطليقها بعد أن همس احدهم في أُذنه بأن والدها يعمل متخابرا مع الاحتلال، وقبل ان يتحرى صدق او كذب هذه الوشاية فقد وقف في وسط القاعة وألقى عليها يمين الطلاق ثلاثاً.
 كم جريمة ارتكبنا بحق هؤلاء الضحايا، ونحن نتفوق دائما بمحاكمة الجاني ومن حوله وكل من يمت له بصلة، ونبتعد عن قيم وشيم العرب وأخلاق وتربية الإسلام وندفع بذوي العملاء إلى هاوية الضياع ليصبحوا أعداء المجتمع بسبب عدم احتضانهم ودمجهم في الحياة من جديد.