لم تكن زيارة الرئيس محمود عباس الى البيت الأبيض هي الأولى ولكنها في تفاصيلها ليست كأي زيارة أخرى سابقة.
فمع فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية سارع مسؤولون ومحللون عرب الى اعتبار ان الفلسطينيين باتوا بذلك "غير ذي صلة" لتنمو العلاقات على مدى 100 يوم الى درجة حيرت الكثير من المراقبين عن سر "الكيمياء" التي بنيت سريعاً بين الرئيسين الفلسطيني والأميركي.
الرئيس ترامب وطاقمه كانوا جديدين على الجانب الفلسطيني، فهم ليسوا من "المؤسسة" الأميركية خلافاً للرئيسين السابقين جورج بوش الابن وباراك اوباما.
خلافاً لبعض قادة الفصائل الفلسطينية الذين تعمدوا توجيه الانتقاد الى الإدارة الأميرية الجديدة مستندين الى تصريحات إسرائيلية، فإن الرئيس محمود عباس اعتمد دبلوماسية هادئة برزت نتائجها لاحقاً في الزيارة التي وصفها بالناجحة الى البيت الأبيض.
وبعد ان كان المحللون منشغلين بالحديث عن "تجاهل "السيد الجديد في البيت الأبيض للرئيس عباس وسيناريوهات ذلك فإنهم وجدوا انفسهم أمام مشهد لم يكن يتوقعه حتى الكثير من المسؤولين الفلسطينيين.
فاللقاء في البيت الأبيض سبقته خطوات وترتيبات خلقت علاقة جديدة يتوقع ان تتكشف أكثر فأكثر خلال زيارة ترامب الى بيت لحم في الثالث والعشرين من الشهر الجاري. (التتمة ص 9)
وقال الرئيس عباس "الزيارة سبقتها بعض التفاصيل، فقبل شهر ونصف وبعد ان وصل الرئيس دونالد ترامب الى السلطة في البيت الأبيض تم توجيه دعوة لمدير المخابرات الفلسطينية (اللواء ماجد فرج) للحضور الى واشنطن للقاء نظرائه في هذا البلد، وفعلا جاء مدير المخابرات والتقى مع العديد من المسؤولين الأمنيين، وكذلك السياسيين في واشنطن، وعاد لنا بكثير من المعلومات، وهي ان هناك عهداً جديداً في واشنطن واننا نترقب اشياء جديدة، لأن هناك رجلا جديدا في هذا البلد ربما سيقدم اشياء جديدة لقضيتنا، وسعدنا جداً بهذا اللقاء".
وأضاف في لقاء مغلق مع السفراء العرب في واشنطن: بعد ذلك مباشرة وبعد فترة قصيرة من تعيين رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (مايك بومبيو) قيل لنا انه سيأتي الينا، وبالفعل فقد زارنا في رام الله وجلسنا معه جلسة طويلة، وهو رجل خبير حيث انه كان عضوا في الكونغرس، ولذلك فان حديثنا لم يكن غريباً عليه كثيراً، ولكن ربما احتاج معرفة بعض التفاصيل، الا انه بعد ان انهى جلسته قال: أنا أغادر الآن الى المطار ومنه الى واشنطن، لأنني اريد ان اضع محضر الجلسة امام الرئيس ترامب حيث سيستقبل الليلة بنيامين نتنياهو.
كان اللقاء مع رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية هو الاتصال الأول على مستوى الرئيس والثاني على المستوى الفلسطيني، ورغم محاولة بعض الأطراف الزعم بأن الاتصالات الفلسطينية -الأميركية أمنية الطابع فإنها تواصلت على المستوى السياسي.
وقال الرئيس "الخطوة الثانية وبعد نحو الأسبوع اتصل بنا الرئيس ترامب وكان الاتصال الأول ورحب بنا، ثم قال ادعوكم الى البيت الأبيض، وقال انا سمعت عنكم بعض الكلام، ولكن اريد ان اسمع منكم الكثير، لأنني اريد ان اجد حلا للصراع، وكرر دعوته اكثر من مرة، ثم قال لي انه يثق ثقة كبيرة بعدد من معاونيه ومن بينهم جيسون غرينبلات وانه سيرسله لنا خلال فترة قصيرة للحديث معه".
كانت الخطوة الرابعة هي لقاء مبعوث الرئيس الأميركي للاتفاقيات الدولية جيسون غرينبلات مع الرئيس عباس في رام الله.
وقال الرئيس عباس "جاء غرينبلات وجلست معه جلسة مطولة وتحدثت له من الألف الى الياء لأنني افترضت أنه بحاجة لمعرفة معلومات، وقد بدأت حديثي من أوسلو الى يومنا هذا خطوة خطوة، حديثاً كاملاً متكاملاً عن القضية الفلسطينية، ثم حاولت ان أجيب عن كل تساؤلاته التي افترضت انها في ذهنه، ولذلك عندما أنهيت حديثي قال: لم يتبق لدي شيء اسأل عنه وكانت جلسة مفيدة".
كانت الخطوة الخامسة هي اللقاء الجديد الذي عقده غرنيبلات مع الرئيس في الجانب الأردني من البحر الميت على هامش القمة العربية.
وقال الرئيس عباس "ذهب غرينبلات الى واشنطن وعاد الينا مرة اخرى في القمة العربية في الاردن، وقد التقى حينها مع العديد من وزراء خارجية الدول العربية".
وفي غضون ذلك فقد جرى التحضير للقمة من خلال زيارة الى واشنطن لوفد ضم أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير د.صائب عريقات ورئيس المخابرات العامة اللواء ماجد فرج والمستشار الاقتصادي للرئيس د.محمد مصطفى.
غير ان هذا الاستعداد واكبه أيضا استعداد على مستوى زعماء فلسطين والأردن ومصر بعد ان تم توجيه دعوة لكل منهم لزيارة البيت الأبيض.
وقال الرئيس عباس "الدعوة وجهت لنا وحضرنا انفسنا لهذه الزيارة، ولكن قبلها في القمة العربية التي كانت قمة فلسطين، بادر الملك عبد الله الثاني بدعوة للقاء ثلاثي بمشاركة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأنا من اجل ان نحمل رسالة واحدة موحدة الى واشنطن باعتبار أن هناك دعوة للملك والرئيس، وأنني لدي دعوة لم يكن محدداً وقتها، ولذلك جلسنا نحن الثلاثة وتحدثنا بإسهاب عن ما يجب ان نقوله في واشنطن".
وأضاف "وبالفعل جاء الملك عبد الله والرئيس السيسي وابلغنا بما جرى معهما في واشنطن، وقد تحدثا بلغة واحدة، وكان هذا مفيدا جدا لنا، ثم تقرر ان آتي الى هنا، وبالفعل وصلت الى واشنطن وأجريت بعض الاتصالات الجانبية وذهبنا في البيت الأبيض".
اللقاء مع جاريد كوشنر
بوصول الرئيس عباس إلى واشنطن تواصلت اللقاءات ما بين الجانب الفلسطيني والجانب الأميركي، وبعيداً عن الإعلام جرى اللقاء الأول ما بين الرئيس عباس وكبير مستشاري الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنر.
ترك كوشنر انطباعاً إيجابياً للغاية لدى الرئيس عباس "إنه رجل مهذب ويريد ان يفهم الوضع عن كثب، وكان يطرح الأسئلة بكل أدب عن كل قضية يريد ان يستفسر عنها".
كان هذا اللقاء قبل يوم واحد من وصول الرئيس الى البيت الأبيض.
حتى اللقاء في البيت الأبيض كانت التقديرات في أوساط المسؤولين الفلسطينيين متفاوتة، فالبعض توقع لقاءً سهلاً سلساً، والبعض الآخر كان يخشى مفاجآت اللحظة الأخيرة.
ثلاث وقفات لترامب مع الرئيس عباس
ولكن اللقاء جاء بما تمناه المسؤولون الفلسطينيون، فقد كان إيجابياً للغاية، وهو ما بدا واضحاً من خلال مراحل استقبال الرئيس في البيت الأبيض.
كان الرئيس عباس نام بشكل طبيعي في تلك الليلة بعد الرحلة الجوية الطويلة وفارق التوقيت، وبدا مرتاحاً في ساعات الصباح وهو يستعد للتوجه الى البيت الأبيض للمرة الأولى في عهد ترامب.
فمع وصول الرئيس الى البيت الأبيض استقبله الرئيس ترامب عند الباب ومن ثم سار معه لخط عباراته على دفتر الزوار، ومن ثم توجها سوياً الى المكتب البيضاوي، حيث رحب ترامب أمام وسائل الإعلام بالرئيس عباس وصافحه أكثر من مرة، ولاحقاً توجها الى غرفة روزنفيلد التاريخية في البيت الأبيض، حيث أدليا بتصريحين منفصلين قبل ان يتصافحا مجدداً ويتوجها الى "الكابينت روم" حيث تعقد اجتماعات الحكومة الأميركية.
في الكابينت روم جلس وزير الخارجية ريكس تلرسون على يسار الرئيس الأميركي وعلى يمينه جلس نائبه مايك بنس، كما شارك في الجلسة مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي الجنراك ماك ماستر، إضافة الى كوشنر وغرينبلات وكبير موظفي البيت الأبيض الى جانب القنصل الأميري العام في القدس دونالد بلووم.
من الجانب الفلسطيني تواجد الى جانب الرئيس إضافة الى د.عريقات واللواء فرج ود.مصطفى كل من زياد ابو عمرو نائب رئيس الوزراء ومستشاري الرئيس نبيل ابو ردينة ومجدي الخالدي، إضافة الى السفير الفلسطيني في واشنطن حسام زملط.
الرئيس: هذا ما جرى في البيت الأبيض
وبشأن تفاصيل الزيارة في البيت الأبيض "بعد ان وقعنا دفتر الزوار وأدلينا بالبيانات الصحافية جلسنا سوياً وحاولت بكل جهدي ان اطرح له ماذا نريد وبماذا نفكر، قلت له بالحرف الواحد أننا كأمة عربية واحدة كلنا ضد الإرهاب، وكلنا نحارب الإرهاب أياً كان مصدره وأياً كان نوعه، نحن كأمة عربية هذا غريب علينا وغريب على ثقافتنا، ولذلك نحن نقف ضد الإرهاب، والنقطة الثانية بالنسبة للوضع السياسي نحن الفلسطينيين نؤمن برؤية الدولتين، بمعنى ان هناك دولة إسرائيل وهي قائمة، ونريد ان تقوم الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية".
وأضاف "قد يخطر ببال احد الحديث عن دولة واحدة، وقلت له ان خيارنا هو خيار الدولتين، ولكن اذا كان هناك حديث عن الدولة الواحدة فهناك خياران، إما ان تكون دولة تمييز عنصري اي دولة بنظامين كما يجري الآن في الأراضي الفلسطينية، وهذا بطبيعة الحال لن تقبلوه ولم يقبله احد في العالم، أو ان تكون هناك دولة ثنائية القومية وهذا باعتقادي وسمعته منهم اكثر من مرة انهم يرفضونه رفضاً قاطعاً، وبالتالي بقي عندنا حل الدولتين، دولة فلسطين على حدود 1967 ودولة اسرائيل، ونحن نريد الدولة على هذه الحدود والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين".
وكان الرئيس الأميركي سبق وأن قال في مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض منتصف شهر شباط إنه لا يهتم إن كان حل الدولة الواحدة او الدولتين، وأن المهم هو ما يقرره الفلسطينيون والإسرائيليون.
وانتقل الرئيس عباس في حديثه مع الرئيس ترامب شرح مبادرة السلام العربية مستعيناً بنشرة من صفحة واحدة كانت اعدتها الرئاسة الفلسطينية، تتضمن نص المبادرة وأعلام الدول العربية والإسلامية التي توافق عليها.
وقال الرئيس "قلت له لدينا المبادرة التي تم تبنيها في القمة العربية في بيروت عام 2002 وفي اعتقادي أن هذه المبادرة هي أثمن ما قُدم من مبادرات لحل القضية الفلسطينية، وهي ليست طويلة وليست معقدة وهي تشمل بندين أساسيين".
شرح الرئيس عباس للرئيس الأميركي أن البند الأول يقول اذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة فان جميع الدول العربية مستعدة لإقامة علاقات مع إسرائيل، وأن هذه المبادرة اعتُمدت في اكثر من عاصمة وفي اكثر من قمة ليست عربية فحسب وانما إسلامية أيضاً، حيث اعتمدت في أسطنبول وايران وباكستان واكثر من قمة إسلامية، هذه القمم جميعاً تبنت المبادرة العربية.
وشرح الرئيس عباس للرئيس الأميركي بأن أعلام الدول الموجودة على الورقة هي الدول التي تبنت مبادرة السلام العربية والتي أبدت استعدادها من اجل الاعتراف بدولة اسرائيل في حال ان اسرائيل انسحبت من الاراضي العربية والفلسطينية المحتلة.
الرئيس شرح القضية لترامب في 20 دقيقة
كما شرح الرئيس عباس أن مبادرة السلام العربية عالجت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عندما قالت لا بد من حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين حسب القرار 194، اذن فإن هذه القضية يجب ان تحل بحلول خلاقة حسب الشرعية الدولية.
وقال الرئيس عباس للرئيس الأميركي "نحن نصر على هذا الحل لأننا نريد ليس فقط معاهدة سلام بيننا وبين اسرائيل، وانما انهاء الصراع بيننا وبين الإسرائيليين، واذا ما استمرت قضية اللاجئين بدون حل فستبقى قائمة".
خارطة فلسطين متسلسلة
ولاحقاً عرض الرئيس عباس على الرئيس الأميركي خارطة فلسطين منذ العام 1937 وحتى الآن لتوضيح تآكل الأراضي الفلسطينية بفعل الاحتلال الإسرائيلي.
وقال: تشرح الخرائط القضية الفلسطينية على مدى 70 عاما بدءاً من خارطة فلسطين التاريخية ثم مشروع التقسيم الأول عام 1937 والثاني عام 1947 ثم عام 1948 ماذا تبقى لنا، ثم بالاخير ماذا ابقى الإسرائيليون للفلسطينيين ببناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية.
ولذلك، فقد اشار الرئيس عباس الى انه في حال استمرار الاستيطان "فكيف يمكن بناء الدولة الفلسطينية، ومن هنا فإننا نرفض الاستيطان ونعتبر انه غير شرعي، ولا بد من معالجته على هذا الأساس عندما نجلس على الطاولة".
كل ذلك الشرح تم في فترة تتراوح ما بين 15-20 دقيقة في جلسة ثنائية اقتصرت على الرئيسين ومن ثم انتقلا الى الكابينت روم في البيت الأبيض، حيث انضم إليهما الفريقان الأميركي والفلسطيني.
وفي اللقاء في الكابينت روم تحدث المسؤولون الفلسطينيون كل في اختصاصه، شارحين الموقف الفلسطيني من كل القضايا.
ويقول الرئيس عباس "باختصار شعرنا بأن الرجل جدي وهو مقبل على ايجاد حل ومستعجل على هذا الحل، ونرجو ان يحدث ذلك، وقلت له إننا جاهزون ومستعدون لإرسال وفد فوري الى أميركا لبدء المفاوضات بالشكل الذي ترونه مناسباً".
وأضاف "هذه هي الأسس التي لدينا وهذه هي مواقفنا ولا نطالب بأكثر من الشرعية الدولية".
وتابع الرئيس "وأنا كنت سعيداً جداً بما لمسته من الرئيس ترامب من استعداد جيد جداً لديه لكي يواصل، ولا أقول انه قبل ما قلته، ولكنه على الأقل استمع إليَّ بشكل جيد وبشكل مهتم جدا، واتمنى ان يكون قد اقتنع ولكن هذا يحتاج إلى وقت، وأظن انه بحاجة لمعرفة تفاصيل أخرى ".
حفاوة استثنائية
وأجمع المراقبون على ان الرئيس عباس حظي في البيت الأبيض باستثناء خاص من حيث حفاوة الاستقبال.
وكان بارزاً في ترتيبات الاستقبال في البيت الأبيض بروز العلم الفلسطيني في كثير من المواقع وخاصة في غرفة روزنفيلد التاريخية، حيث كان العلم الفلسطيني خلف الرئيس الأميركي طوال فترة كلمته.
بعد ساعات من نهاية الاجتماع، كان العشرات من المسؤولين الأميركيين ورجال الفكر في واشنطن، بمن فيهم اكبر المنتقدين للرئيس، وممثلون عن منظمات مثل "ايباك" يتدفقون الى قاعة كبيرة في فندق ماندرين في واشنطن لتهنئة الرئيس عباس على نجاح اللقاء. وحرص الكثيرون على التقاط الصور الشخصية معه.
وفي اليوم التالي كانت المفاجأة الأميركية الثانية، حين اعلن البيت الأبيض قبول الرئيس الأميركي ترامب دعوة الرئيس عباس لزيارة الأراضي الفلسطينية. قال الرئيس عباس إنه يرحب بهذه الزيارة وإنه يأمل أن تحمل شيئاً جديداً.