تطور الإنسان يمر بمراحل ، تقتضي ملائمات و مواءمات حسية و نفسية، و عضوية ، و ذهنية . فالقدرة على التحصيل المعرفي مرتبطة بالبيئة و التطور الطبيعي للأشياء حولها ، و الحاجة للتعايش تحفز العقل على التطوير و الإبتكار للوسائل ، و إبتكار الوسائل يحتاج إلى عقل متطور و رؤية أوسع ، فالإرتباط وثيق و يشبه المتواليات الجبرية .
عقلية البشر في نشأتها كانت أكثر إنشغالاً بالسطح و الظاهر ، وكانت بحاجة إلى تربية مسلكية للتعامل مع الحقائق الواضحة لتُطور لغةً وتبني مجتمعاً ، و تتعارف و تتناسل و من ثم تستخدم الطبيعة حولها ، وكان همها تنظيم التواجد ، دون الغوص في فلسفة الوجود . فبعث الله تعالى رسلاً لتنظيم الحياة و تقنين السلوك الإنساني و لترسيخ المبادئ و الأصول في علاقة الإنسان بالكون أولاً ومن ثم رسلاً للتعريف و لتنظيم علاقة المخلوق بالخالق ..
بهذا بدأت مرحلة رسل التوحيد ، و المنهج ، الذي تطلب إثبات خارق لظاهر الأشياء التي تعود عليها الإنسان ، و إستوعبها و تأقلم معها عقله ، و إكتفى لزمن بإدارة الحياة السطحية ، و بدأ مرحلة التطور الفكري لما تحت السطحيات ، و التفكير في العمق ، و في المكنون ، فإقتضى تصديق الرسل الذين جاءوا يبشرون و يحاولون إقناع الإنسان بأن هناك شئ وراء المحسوس ، خالق للأشياء ، و إله ، تطلب خضوع هؤلاء الأنبياء و المرسلين لتحفيز العقول للتفكير في صدقيتهم و صدقية ما يحملون ، كان لابد من أن يحمل هؤلاء الرسل ما يكسر طبيعة الأشياء الظاهرة ، و يخرق العادة ، بما يسمى بالمعجزة و المعجزة هي كل ما يعجز العقل عن تفكيك رموزه وطلاسمه و كينونته و طبيعته و لكن يشهد بواسطة الحواس نتائج المعجزة . ولما كان عقل الإنسان في مراحله التطورية الأولى كان يرى في ما أتى به الرسل إعجازاً ، و لكن كثير مما أتى به رسل العصور السحيقة ، ربما لا يعتبر في العصر الحالي إعجازاً ، وربما لو عرض رجل من العصر الحالي جهاز هاتف ذكي ، أو تلفزيون أو طائرة أو واجه وحده بسلاح أتوماتيكي ،بندقية سريعة الطلقات ، أو بضعة قنابل يدوية ، جيشاً من ألف مقاتل مدججين بكل الأسلحة ، لقضى عليهم في ساعة . و حقق إنتصاراً إستوجب بعده التقديس و العبادة ..!!
و لكن عقلية الإنسان الحالية ، ترفض الخوارق غير المبررة أو المعقولة ، و تحللها و تفكر فيها ، فالإنسان تطور بالطبيعة ، و بحكم إملاء البيئة الكونية حوله ، فلم يعد يحتمل إعجازاً يقهر عقله ، بل أكثر من هذا بدأ عقله يشطح في تفسيرات و تحليلات و تفسيرات عن ماهية النبوة ذاتها ، فذهب كثير من مفكري وفلاسفة البشرية العظام إلى أن النبوة ما هي إلا قدرة خاصة عند البعض ، و يمكن تطويرها عند آخرين ، و هي قدرة على التخيل و الإستكشاف المبني على معلومة أو علم ببوادر و إرهاصات حدث ، و البناء عليه ، و هي قوة خيــال كما ذهب في تعريفها أحمد خان في الهند و غيره وهنا وقعوا في الخطأ المنطقي الغريب بالخلط بين الوحي ، و الإستيحاء ، فتعريفهم للنبوة هو عملياً تعريف لعملية إستيحاء ، بأن يستوحي شخص من شئ أو حدث معين فكرة أو رؤية أو نظرية و يطورها و يقدمها للعالم ، وفق حسابات معينة قد تكون صحيحة و نتائجها سليمة ، بينما الوحي ، عملية إصطفاء وهبي ، و ليس كسبي وهي وحي و ليست إستيحاء كما يفسرها المفكر عدنان إبراهيم فتح الله عليه ، لذلك كانت الرسالة الأخيرة بآياتها العظام تنزل في كثير من بداية الصياغة بكلمة ( قل ) دلالة على أن الوحي عكس الإستيحاء ، فالوحي إجباري ، لا حول و لا قوة للمُوحى إليه في صده أو رده ، بينما الإستيــحاء جهد شخصي للذي يُعمل فكره و يحاول أن يتفكر و يستلهم و يستوحي ، وهذا ما يفعله المفكرون ، و العلماء ، لذلك كانوا هم بحق ورثة الأنبياء ، وليسوا أنبياء ..
و الوريث هو من يدير ما ورث من علم ، أو مادة ، أو أي شئ ، إدارة مبنية و مرتكزة على ( شئ ) قائم .. يفسره ، و ينطلق منه ، و يستوحي منه ..و الآيات التي نزلت على النبي محمد عليه الصلاة و السلام ، رسالة تخاطب العقل ، و لم ترفق بأي خوارق و لا معجزات ، سوى ، حجة القرآن الحكيم . الذي خاطب أولي الألباب ، و قوم يتفكرون ، و يطورون القدرة ، بالعقل ، و التفكر ، لإكتشاف رسل ، و رسالات و إشارات، و جنود الله ، التي تثبت وجوده بالعلم و الفكر و لهذا ، و حيث أن الإنســان قد وصل إلى مرحلة من التطور ، النفسي و البشري ، و أصبح مؤهلاً ، فهو لم يعد بحاجة إلى أنبياء ، فالرسالة وصلت ، و العقل نضج ، و عليه أن يتفكر في آخر الرسالات ، ليكتشف بنفسه ، و يرى و يلمس و يشعر ، بكل ما يثبت قدرة الله ، و كلما تقدم الإنسان و فكر في نفسه و في كون الله ، و أكتشف كيانات ، وحقائق و إخترق بالسلطان ، أقطار السماوات و الأرض ، تطور عقله ، و تطورت قدراته على الإستيحاء ، و الفهم ،و زاد إيمانه ، و للدقة زاد إيمان المتفكرين ، و أصحاب النهي ، الألباب ، العقول .. و زاد جحود الرجعيين ، غير المتطورين و المؤهلين لإستيعاب و فهم الشواهد الجديدة ...
و يبدوا أن عدد القادرين على تطوير عقولهم على حساب تطوير غرائزهم ، و إعمال فكرهم يتناسب تناسباً عكسياً مع التقدم في الزمن .. فالتفكير أو التنبؤ بحال البشرية بعد ألف ، أو خمسة آلاف أو مليون عام من الآن ، ربما سيكون التقدم العلمي المادي قد وصل إلى مستويات إعجازية و طبقات معرفية أعلى من مستوى تفكيرنا الآن ، و ربما تكون البشرية قد طورت حواسها الغريزية الحسية أيضاً للتمتع بهذا التطور المادي ، و لكن القلة المفكرة بعمق ستزداد إيمانا بما سيقدمه العلم من تفسير و تأكيد على الواجد فيزداد السعي لتقدير الله حق قدره، و الإيمان بالقرآن و رسالة محمد عليه الصلاة و السلام ، بينما ستكتفي الأغلبية بالأخذ بأسباب التمتع بالموجود بأساليب ، غاية في التقدم و النجاح الإداري و التمدن على غرار عاد و ثمود .
فبما أن العقل البشري قد وصل لمرحلة من التــطور ، أدخلته في مربع التفكير و الإستيحاء ، إعتكاداً على حقيقة تم إنزالها و فكرة إكتملت بالقرآن و سميت الإسلام ، فلا حاجة لموجه أو مربي أو منظم ، أو بشير أو نذير بعد ذلك ، و سيعتمد الإنسان على عقله ، ليصبح عقله إمامه ، لهذا كان النبي محمد عليه الصلاة و السلام هو النبي الأخيــر .


