الزمن نوفمبر/تشرين ثاني من عام 94 إنها المنطقة الحرام الفاصلة بين معبر مساعد البري الليبي ومعبر السلوم البري المصري على الحدود بين البلدين، أثناء هذا الوقت من السنة والذي يتميز بالجفاف اللافح نهارا والبرودة الشديدة ليلا في صحراء مفتوحة كهذه، وصل أيمن مع زميله علي قادمَين من غزة بعد أن أنهو هناك إجازتهم السنوية الصيفية. أيمن وعلي الغزيين، هما طالبين في السنوات الأخيرة من دراستهم الجامعية في “جامعة ناصر الأممية” بليبيا، وصلا برفقة خمسة عشر طالبا آخرين من غزة، بل إن معظمهم من الطلبة، فور وصولهم إلى حدود السلوم المصرية ليلا تفاجأ الجميع بأنهم ممنوعين من العبور تجاه الحدود الليبية، والسبب أنه لا يوجد تنسيق بأسمائهم هناك على الجانب الليبي، هذا التنسيق هو الذي يخولهم العبور تجاه الأرض الليبية.
لقد جن جنون أيمن فيما حاول علي من تهدئته، وهو يشرح إلى موظفي الحدود المصرية بأنهم طلاب في السنوات الأخيرة من الدراسة، مظهرا لهم الأوراق التي تثبت ذلك، لقد كان رد الموظفين المصريين حاسما حين أخبروا أيمن بأنهم لا علاقة لهم بذلك، فالمنع يأتي من الجانب الليبي وليس من جانبهم، أثناء ذلك حضر موظف كبير من أمن الدولة على إثر الأصوات العالية والصراخ مستفسرا عن الأمر، حيث أمر في النهاية بالسماح ﻷيمن وعلي بالذهاب إلى الجانب الليبي، فإن وجدوا تنسيقا فلا مانع من السماح لهم ولكل الغزيبن بالمرور، بشرط مرافقة أحد العساكر المصريين لهما. وصل أيمن وعلي مع العسكري إلى الجانب الليبي سيرا على الأقدام بعد أن قطعوا قرابة الثلاثمئة متر، غير أن العسكري المصري لا يحق له تخطي منطقة الحرام الحدودية تجاه الجانب الليبي فوقف ينتظرهم هناك ليستمع منهما إلى الرد، وعندما استفسرا عن الأمر قوبلا بالرفض ﻷن أسميهما وباقي الغزيبن الآخرين غير موجودة على كشف التنسيق، جن جنون أيمن مجددا ودار ذاك النقاش البيزنطي المحموم المهموم، لكن دون جدوى تذكر، وكانت هناك خطة بأن يذهبا إلى العسكري المصري ويخبراه بأن أسمائهم موجودة على الكشف وأن خطأ ما قد حدث وتم تداركه. بعد أن اقتنع العسكري برواية أيمن وعلي عاد أدراجه بينما ذهبا للجلوس قبالة مكتب فحص جوازات السفر الليبي، حين حضر إليهم الضابط مسرعا وهو يقول “ألم أخبركما أنه لا أسماء لكما في كشف التنسيق؟ مالذي تفعلانه هنا” يرد أيمن قائلا “يا رجل نحن طلبة في السنوات الأخيرة من دراستنا يجب أن ندخل لﻹلتحاق بالدراسة وسنجلس هنا سنة إن لزم الأمر”. *النوم في العراء* ذهب الضابط الليبي وهو يتهدد أيمن وعلي،
وما هي إلا لحظات حتى عاد ومعه رهط عساكر أمسك أحدهما بذراعي أيمن وعلي وقام بإخراجهم بالقوة من المبنى قائلا لهما “دخولكما من سابع المستحيلات، عودا من حيث أتيتما”. وجد أيمن وعلي نفسيهما في النهاية وممن تبقى من الطلبة الغزيين في العراء وسط المنطقة الحرام التي تفصل الحدود المصرية عن الحدود الليبية، شىء غريب أنقذهم هناك من بين براثن البرد القارس وعتمة الليل، هذا الشىء الغريب هو تلك السيارة القديمة المتآكلة من نوع فوكسفاجن بيتل أقام إلى جوارها تلك الخيمة البسيطة مطارد فلسطيني غزي كان قد أبعد في السابق من غزة بأمر من قوات الإحتلال، وها هو يطرد من ليبيا منذ شهر على إثر إتهامه بتهريب الممنوعات، كانت خيمة صغيرة لكنها تفي بالغرض أثناء برد الصحراء الليلي الشديد، وتكفي هؤلاء الشباب الثلاثة، أيمن وعلي والمطارد.
مر أسبوع الآن قبل أن يأتي إليهم أحد سواء من الجانب المصري أو الجانب الليبي، يقول أيمن أنه في لحظات كثيرة أحسسنا أنه يجب علينا اﻹعلان عن وجودنا بأي طريقة، فالجانب الليبي وضع أذن من طين والأخرى من عجين، أما الجانب المصري فما زال يرمي المسؤولية على الجانب الليبي، لكن، وفي صباح اليوم التالي وبينما كنا نستعد أنا وعلي على اتخاذ تلك الخطوات، وإذا بعدة حافلات كبيرة يعبرن الحدود الليبية تجاه مصر وينزل ركابها وكانوا جميعا من الفلسطينيين المقيمين في ليبيا والذين يحملون وثائق لبنانية، وبدأوا بالنزول في المنطقة العازلة مع نظرات الذهول التي اعتلت ملامح وجوههم، لماذا يتم إنزالنا هنا؟!. معظم ركاب تلك الباصات كانوا من الشباب، ذكورا وإناثا، لم تكن ثمة عائلات! كان شيئا غاية في الغرابة، تبين في النهاية أن الحكومة الليبية أعدت رحلة جماعية على مستوى الجماهيرة لهؤلاء الشباب بالذات، حين تفاجأوا في النهاية برميهم دون مأوى على المنطقة الحرام، في اليوم التالي بدأت تصل تلك الحافلات الكبيرة المحملة بالعائلات الفلسطينية التي قضت أعمارها وأنجبت شبابها في ليبيا لينضموا في النهاية هم أيضا إلي أنا وعلي وباقي الرفقة.
حضر في النهاية أحد الضباط الليبيين إلى تلك الجموع الفلسطينية الغفيرة من العوائل والشباب وأنا وعلي، ليخبرهم أن العقيد معمر القذافي قرر طردهم من ليبيا ليذهبوا إلى دولتهم فلسطين، تلك الدولة التي يجب أن تولد بعد أن أبرمت منظمة التحرير الفلسطينة إتفاقية أوسلو للسلام مع الكيان الصهيوني، إذا لا يحق لهم البقاء في ليبيا كلاجئين وفاقدي الإقامة ما دام أن منظمتهم بقيادة ياسر عرفات أبو عمار أبرمت تلك الإتفاقية.
مر الآن يومان قبل أن يهتم ﻷمرنا أحد يقول أيمن، العوائل يباتون في العراء، يمر المسافرون عن الحدود ذهابا وإيابا وكأن أحدا لم يتواجد على الحدود! قررنا أنا وعلي إيقاف تلك السيارات المحملة بالمسافرين لنطلب منهم بعض المعلبات وقوارير مياه الشرب، نجح الأمر إلى حد ما حين بدأ المسافرون بإبلاغ غيرهم ممن لم يعبروا الحدود بعد بشراء بعض المعلبات وقوارير مياه الشرب وجلبها إلى تلك العوائل التي تقطعت بها السبل.
*الأمور تخرج عن السيطرة*
قررنا أنا وعلي إنشاء لجنة شعبية من الشباب لحراسة مخيمنا الذي يفتقر إلى الخيم أصلا، تعنى تلك اللجنة بحل النزاعات التي بدأت تظهر فيما بين العوائل نظرا لقلة الطعام والماء ولضنك الحال هناك، لكن كان السبب الرئيس ﻹنشاء هذه اللجنة هو كثرة الكلاب الضالة التي تجوب المكان ليلا، يقول أيمن أنه قد يصل تعداد مجموعة الكلاب الواحدة إلى عشرات الكلاب، وتتميز بأنها شرسة وعنيدة مما اضطرنا ﻹشعال إطارات السيارات الملقاة هناك بكثرة، والتي تحيل المكان إلى جحيم حقيقي يقض مضجع الذين غلبهم النوم جراء الدخان الكثيف والرائحة النفاذة المزعجة الناجمة عن اﻹشتعال، إلا أنها كانت تبقي الكلاب بعيدة.
في صباح اليوم التالي حضر بعض ضباط أمن الدولة المصريين ليؤنبوا الجموع لإشعالهم تلك اﻹطارات، وأبلغوهم بأن موضوع وجودهم هنا ليس بيد الجانب المصري بل بيد الجانب الليبي، إلا أن هذا البلاغ لم يخلو من بعض القساوة التي أدت إلى التراشق بالمسبات النابية فيما بين ضباط أمن الدولة والشبان الفلسطينيين، الأمر الذي دفع الشبان إلى رشق الضباط بالحجارة كما يقول أيمن.
في ذلك اليوم يقول أيمن أنه عبرت شاحنة من الجانب المصري وكانت محملة بحبيبات البلاستيك، لكن كان الطريق قد أغلقناه بعد الحادثة الأخيرة باﻹطارات والحجارة للفت الأنظار إلينا، حازمين منع مرور أي مسافر البتة، سواء من هذا الجانب أو ذاك، إلا أن سائق الشاحنة المصرية وهو مصري الجنسية أيضا لم يتقبل ذلك، وبدأ بكيل الشتائم النابية علي وعلى كل فلسطين والفلسطينيين والفلسطينيات متهمنا جميعا بالدعارة والخيانة وبيع بلادنا لليهود وأننا لو رجال لذهبنا لتحرير أقصانا أولا قبل أن نرتكب هذه الأفعال الجبانة التخريبية، محاولا وهو يصرخ أن يتفادى بشاحنته ذاك الحاجز بالقوة، إلا أنه عجز عن ذلك تماما، حيث علقت شاحنتة في مكانها، الأمر الذي دفعه للنزول منها ثم فر مهرولا تجاه الجانب المصري خوفا من أن يهاجمه الشبان الغاضبون منه، فيما أضرمت الجموع النار في الشاحنة التي تحولت إلى كتلة من النيران هائلة الحجم مرعبة، يقول أيمن أنهم ومجموعته عندما شاهدوا هول ما فعلوه بالشاحنة أدركوا أنهم هالكون لا محالة، وأن جحيما سيفتح بابه عليهم في القريب العاجل من الجانب المصري.
في صباح اليوم التالي تفاجأت الجموع الفلسطينية بوصول شاحنتين من شاحنات نقل الجند التابعة لﻷمن المركزي المصري بالاصطفاف إلى جانب بعضهما، ثم بدأ الجنود المدججين والمعتمرين خوذ على رؤوسهم والواقيات الزجاجية على وجوههم ويحملون عصي سوداء ودروع حامية في أيديهم، يقول أيمن أنهم وقفوا بشكل صفوف متساوية وبدأوا بالتحرك وهم في أماكنهم ويصرخون بصوت عالي على صعيد رجل واحد “ها..ها..ها” ويضربون بأرجلهم الأرض. يروي أيمن ويقول، وقفنا نحن الشباب في الجهة المقابلة لجنود الأمن المركزي في استعداد لﻹشتباك إن لزم الأمر، لكن الجنود استمروا بالحركة وإصدار ذاك الصوت ربما لساعات طويلة جدا يبدوا أنها وصلت حتى بعد منتصف النهار! ثم فجأة بدأ الجنود بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع نحونا، وبدأت هذه القنابل بالسقوط علينا وعلى العوائل التي تجلس مع أطفالها من خلفنا، وفجأة وكأن القيامة قامت وهرع الرجال والنساء نحو المبنى الذي يضم موظفي الجوازات الليبية، تاركة بعض العوائل الأطفال والصغار من خلفهم، يكمل أيمن ويقول، نحن الغزيون القادمون من غزة متعودون على تلك القنابل وعلى استنشاق غازها، لكن تلك الجموع التي طردت لتوها من ليبيا باتوا يصارعون الإختناق وربما الموت، لقد تركنا الجنود من خلفنا حين بدأوا يطلقون الخرطوش هذه المرة، وحملنا الأطفال الذين تركوا في أماكنهم وقمنا بنقلهم إلى داخل مبنى الجوازات الليبية لنجده فارغا تماما من الليبيين وامتلأت الأرض بالرجال والنساء والأطفال الذين يعانون الإختناق جراء استنشاقهم للغاز المسيل للدموع.
يتابع أيمن ويقول، نقلنا أشخاصا تعرضوا للاصابة بالخرطوش باﻹضافة إلى الأشخاص المختنقين، وبدأنا نصرخ في الجموع أن لا يغسلوا وجوههم أو وجوه أطفالهم وذويهم بالماء، وأن يساعدونا في البحث عن البصل في أي مكان داخل مبنى الجوازات لوضعه على أنوفهم فهو يخفف حدة تأثير الغاز على عكس الماء الذي يفاقم من تأثيره. مر ذاك اليوم بصعوبة بالغة، ووجدنا أن العوائل احتلت مبنى الجوازات الليبي وقاموا بتحريك المكاتب والكراسي والمقاعد ليفترشوا الأرض، كان هناك مطبخ صغير وجد به بعض الخضر والبصل الذي ساعد على تخفيف حدة الغاز المسيل، لقد صنعت بعض النسوة الشاي لنا ولباقي الشباب.
*فيفي عبده والقذافي*
في صباح اليوم التالي تفاجأ الجميع بوصول شاحنة متوسطة الحجم ومبردة تحمل الدجاج المجمد، وشاحنة أخرى محملة بالمئات من قوارير المياه المعدنية عبرتا من الجانب المصري، إنها مساعدة طارئة مقدمة من رجل الأعمال الفلسطيني وزوج الراقصة فيفي عبده“محمد الديراوي” كما أخبرنا أحد السائقين، كانت مساعدات في مكانها خاصة وأن الناس لم يأكلوا سوى بعض المعلبات، يتابع أيمن كانت فرصة أن أستحم أنا وبعض الشباب بالمياه المعدنية نظرا لكثرتها ونظرا لعدم وجود الماء سوى داخل دورة المياه الوحيدة التي كانت ضمن مبنى الجوازات الليبية والتي سيطرت عليها طبعا بعض الأسر الفلسطينية، عصر ذلك اليوم وصل وﻷول مرة منذ أسبوعين أول وكالات الأنباء وكانت آخرها، كان مراسل تليفزيوني لدى ألBBC البريطانية، أخذ وفريقه لقطات سريعة للمكان واﻹطارات المحروقة، وأجروا مقابلة معي حيث فسمح لي المراسل المجال لأشرح مالذي يجري هنا ولأتحدث عن معاناتنا وعن مطالبنا.
يقول أيمن أنه وفي مساء ذلك اليوم، جاءنا خبر من الجانب الليبي أنه في صباح الغد سوف يزورنا العقيد معمر القذافي، لا ندري هل كان ذلك بسبب المقابلة التي بثتها ألBBC أم لا؟ المهم أن العقيد سيأتي وسيقف شخصيا على معاناتنا، وسنطلب منه السماح لنا بدخول ليبيا. يروي أيمن ويقول، لم أذق طعم النوم طوال تلك الليلة وأنا أفكر فيما سيحدث غدا، وأنا أفكر أيضا فيما سأقوله للعقيد إن استطعت ذلك، وأنا أتخيل تلك السيناريوهات التي قد تحدث غدا، وأخيرا بزغت شمس الصباح، وحتى الساعة العاشرة صباحا لم يجد أي جديد، ولم يأت أحد من الجانب الليبي على الأقل لاسترجاع مبنى الجوازات من العوائل الفلسطينية التي احتلته وافترشت أرضه؛ لكن وعلى حين غرة عبر الحدود الليبية موكب من خمسة سيارات جيب سوداء مضللة تجاهنا، كانت مسرعة مثيرة غبارا كثيفا خلفها، لكهنا استدارت عائدة أدراجها دون أن تقف أو يترجل منها أحد، ثم أعيدت الكرة مجددا بعد سويعات من المرة الأولى، لكن هذه المرة لسيارات جيب عسكرية لا تحمل لوحات، كانت هي الأخرى مسرعة وجابت المنطقة الحرام بشكل دائري دون أن تتوقف أو يترجل منها أحد ثم عادت أدراجها، ونحن نراقب ذلك عن بعد.
قبيل العصر حضرت شاحنة عسكرية ضخمة جدا يرافقها جيبات عسكرية لا تحمل لوحات، قام الجنود بإنزال من عليها منصة خشبية من أجزاء جمعت بسرعة إلى بعضها البعض، يبدو أن العقيد القذافي سيقف عليها ليخطب بالجموع الفلسطينة حين يحضر اليوم، أثناء ذلك لم يكلمنا أحد من العساكر الليبيين الذين ترجلوا من الجيبات وأحاطوا بأولئك الذين جهزوا المنصة الخشبية، ونحن لم نكلمهم أيضا. بعد ساعة من ذلك تقريبا، حضرت طائرة هليكوبتر وحلقت بشكل منخفض فوق المنصة وفوق الجموع الفلسطينية الذين خرجوا من مبنى الجوازات الليبية ليشهدوا الحدث الغريب، لقد أثارت غبارا كثيفا وتطايرت أكياس البلاستيك التي كانت بكثرة في هذا المكان وكل أنواع وأشكال القمامة التي تراكمت هناك على مدار فترة من الزمن، لقد تطاير كل شىء تقريبا حتى خيمتنا الصغيرة الملاصقة لسيارة البيتل اقتلعت من مكانها واختفت بين الفوضى العارمة، لقد تحول المكان إلى عاصفة من الغبار ودوامات القمامة التي بدت تحوم في كل الأرجاء، إلا أن الطائرة لم تحط بل غادرت المكان وابتعدت حتى اختفى صوتها، بعد أن كنا نعتقد بأن العقيد القذافي قد حضر بها أخيرا.
يقول أيمن أننا فقدنا الأمل من حضور العقيد، خاصة بعد مغادرة الطائرة، وخلا المكان تماما إلا منا نحن الفلسطينيون المطرودون من الدنيا، والقمامة التي أصبحت سيدة المشهد حتى أنها احتلت المنصة الخشبية وغطت سطحها بالكامل، وبينما استطردنا وبدأنا بجمع الأوراق والكرتون والأخشاب التي ظهرت بكثرة بعد دوامة الطائرة كي نشعل نارا علنا نطهو بعض الدجاج الذي شارف على التلف وسط هذا الحر، وإذ بحافلة كبيرة متواضعة جدا وقديمة من نوع “MAN” تعبر الحدود الليبية تجاهنا وكانت محملة بجنود ليبيين، وقفت بمحاذاة المنصة الخشبية المتسخة وبدأ الجنود بالنزول منها وقاموا باﻹحاطة بالمنصة، ومنهم من صعد عليها، ثم ظهر فجأة العقيد معمر القذافي بلباسه الغريب المستوحى من الأزياء اﻹفريقية وربطة الرأس العشوائية الشهيرة خاصته، ثم صعد على المنصة وسط الجنود وبدأ برفع قبضة يديه لنا بحركته المشهورة تلك، ثم شرع بالكلام من خلال مكبر صوت محمول كالذي يستخدمه المتظاهرون، وشرع يقول أنا سوف أسمح لكم بدخول ليبيا مجددا، لكن أردت منكم أن تفهموا جيدا بأن إتفاقية أوسلو التي أبرمتها منظمتكم وياسر عرفات مع الصهاينة الذين احتلوا أرضكم لن تجلب لكم دولة ولا كيان، والدليل على ذلك أنكم في العراء الآن ولا يمكنكم المغادرة من هنا ولا ﻷي مكان، أين الدولة الفلسطينية؟ أين منظمة التحرير وياسر عرفات؟ لقد علم بوجودكم هنا من خلال ألBBC باﻷمس، لكنه لا يستطيع فعل أي شىء لكم، ولا يستطيع حتى أن يبعث لكم بالطعام أو الخيم، الذي سوف يأتي لكم بذلك هو أنا والأمم المتحدة ﻷنكم ما زلتم لاجئين، وستبقون كذلك حتى بعد أوسلو هذه، نعم أنتم بعثتم الآن برسالة إلى أولئك المراهنين على أوسلو وعلى تلك الإتفاقيات مع اليهود وإسرائيل”.
يقول أيمن أن العقيد أعطى المايكرفون الذي كان يتكلم من خلاله إلى من يقف خلفه، ثم اختفى بين حراسه من الجنود الذين تبين لنا فيما بعد أن عددا لا بأس به منهم كن من المجندات، ثم غادرت تلك الحافلة بسرعة واختفت خلف الغبار الكثيف. *دجاج بحفاظات الأطفال* لم يجد أي جديد، بل عدنا ﻹكمال شي وطهي الدجاج الذي تغطى تماما بالغبار، حيث قمنا بإضرام النار داخل براميل معدنية صدئة تواجد عددا منها في المكان، لقد وضعناها بشكل مائل بحيث أصبحت كالنفق ووضعنا قطع الدجاج على جسم البرميل من الخارج بينما النار في الداخل، نفذ الورق والكرتون وكل شىء تقريبا والدجاج لم يستو بعد؛ حتى أننا استخدمنا حفاظات الأطفال المستعملة وقوارير المياه الفارغة ﻹكمال عملية الشي، يقول أيمن أنه كان ألذ دجاج مشوي تذوقه يوما، وهذا أيضا كان رأي من وجد نفسه مجبرا على الأكل من هذا الدجاج. يكمل أيمن ويقول أنه وفي اليوم التالي لزيارة العقيد قمنا بزيادة حجم الحاجز الذي يمنع مرور المسافرين من حجارة وإطارات وبراميل معلنين عدم السماح حتى للذبابة بالعبور من هنا قبل أن يتم النظر في حالنا وحال الأسر والأطفال التي باتت مزرية جدا وسط تجاهل الجميع، إلا أننا تفاجأنا بعبور عدد من الشاحنات من الجانب المصري والتي تحمل شعار “UN” الأمم المتحدة، حيث قاموا بتوزيع الخيم والبطانيات علينا وعدد من أنابيب غاز الطهي، بحيث يكون لكل خمسة خيم تقريبا أنبوبة من الغاز، وقاموا بوضع كمية كبيرة من قوارير المياه المعدنية والمعلبات بأنواعها، إلا أنه لم يكن ثمة طباخات أو ما شابه لتركيب أنابيب الغاز عليها واستعمالها للطهي!.
لكن، أدركنا جميعا حينها بأنه ومع وصول مساعدات الأمم المتحدة وكأنها رسالة لنا بأن الأمر سيطول ربما كثيرا أو كثيرا جدا، واستمر الحال على ماهو عليه لقرابة الأسبوع، حتى أن بعض الطلبة الغزيبن وجدوا لهم مصدر رزق جيد من خلال تسهيل عمليات تهريب المواد الغذائية والدخان ومواد البناء وخاصة الإسمنت من الجانب الليبي إلى الجانب المصري وأحيانا بالعكس حيث تعاملوا مع قبيلة أولاد علي المنتشرة على الجانبين الليبي والمصري والتي يعتمد الكثير من أفرادها على عمليات التهريب تلك، وبسماحنا للمسافرين بالعبور من وإلى الجانبين قام البعض باستخدام الخيم كأكشاك لبيع المعلبات والمياه والدخان للمسافرين، حتى أن بعض هذه الأكشاك أحضر الخضر والفواكه بمساعدة أولاد علي، وبعد عودة موظفي الجوازات الليبية إلى مكاتبهم قام صاحبنا قاطن خيمة سيارة البيتل باستبدالها بخيمة نظيفة من خيم الأمم المتحدة بطلب الكهرباء من مبنى الجوازات الليبي، وبالفعل تم إيصال سلك كهرباء وبعض القوابس، حيث قام بدوره بتوصيل الكهرباء لكثير من الخيم الأخرى، وبوجود الإضاءة ليلا أراحت أعضاء اللجنة الشعبية كثيرا من أعباء الحراسة الليلية من هجمات الكلاب الضالة.
*الجحيم مرة أخرى*
لم يصبر الجانب المصري على تصرفات الفلسطينيين الذين يبدو أنهم أقاموا مخيما متكامل الموارد على المنطقة الحرام بحيث أصبح لسكانه تلك الأعمال من التهريب والأكشاك المنتشرة مختلفة النشاطات، حيث باغتنا الأمن المركزي المصري في أحد الصباحات بإطلاق كثيف للخرطوش وقنابل الغاز المسيل للدموع تجاهنا وعلى الخيم، فلم نجد أمامنا سوى الهرب مجددا نحو مبنى الجوازات الليبي للاحتماء. يتابع أيمن، افترشت العوائل الفلسطينية أرض مبنى الجوازات الليبي مجددا، بينما قام الشباب بنقل الأطفال والمصابين باﻹختناق إلى المبنى وكن النسوة اللواتي اكتسبن بعض الخبرة من الحوادث السابقة باستلامهم منا لتقديم الإسعافات الأولية بالبصل وغيره، هذه المرة لم يهجر موظفي الجوازات الليبية مكاتبهم أو مبناهم، لكنهم لم يمانعوا من تواجد الأسر بالذات داخله دون الشباب، وبينما نحن منهمكون بنقل المصابين وإخراج الحاجيات من بعض الخيم التي تعرضت للاحتراق، وإذا بعلي يصرخ، أيمن إلحق يا رجل خيمتنا تشتعل. كل أمورنا ووثائقنا وجوازات سفرنا وهوياتنا الجامعية وتصاريح اﻹحتلال خاصتنا التي لا يمكن العودة إلى الوطن من دونها -كل حياتنا- داخل تلك الخيمة، هرعنا مسرعين تجاه الخيمة التي كانت تشتعل من الخلف لنجد هناك قاطن البيتل يصارع النار وحده لمعرفته بحالنا وأحوالنا وأهمية حقائبنا وما تحويه.
يقول أيمن، بينما انهمكت مع قاطن البيتل بإطفاء النار، سارع علي ﻹخراج حقائبنا من الخيمة، الحمد لله أن وثائقنا لم تصب بأي مكروه عدا أنا خسرنا قوابس الكهرباء وبعض الحاجيات والبطانيات. عادت بعض الأسر إلى بعض خيمها وما تبقى، فيما قضى آخرون ليلتهم داخل مبنى الجوازات الليبي، وكانت تلك ليلة الأسر الفلسطينية الأخيرة في العراء وسط منطقة الحرام على حدود مساعد الليبية، حيث سمح لهم الجانب الليبي في صباح اليوم التالي بالعودة مجددا إلى مدنهم وديارهم هناك في ليبيا، بينما نحن الغزيون القادمون من غزة منعنا من ذلك، إلا أنه وفي عصر ذلك اليوم خرج علينا عسكري ليبي ونحن نقوم بإصلاح ما يمكن إصلاحه من خيمنا المحترقة
ليخبرنا بقرار السلطات الليبية بالسماح للطلاب الغزيين والذين هم في السنة الثالثة والرابعة من دارستهم الجامعية بالدخول، وعدى ذلك فليعودوا أدراجهم إلى غزة. يقول أيمن، كنت أنا منهيا السنة الثانية، وعلي منهيا السنة الثالثة وخمسة آخرين في مثل حالتينا، أما الباقون فكانوا دون السنة الثانية، لذلك تم ترحيلهم إلى رفح المصرية على الحدود مع غزة من قبل المصريين في صباح اليوم التالي، لكني تفاجأت بضياع هويتي الجامعية التي تثبت أنني سأبدأ في السنة الثالثة من دراستي، لذلك تم رفض دخولي مع البقية الذين عبروا الحدود، وتم التواصل مع الجانب المصري بشأني ﻷجل الترحيل الفوري، إلا أنني رفضت الخروج من مبنى الجوازات وتمسكت بالمقاعد الخشبية التي كانت قبالة مكتب مدير المبنى رافضا اقتراب أي شخص مني، وتوسلت للمدير بمخاطبة جامعتي ليتأكد أنني بالفعل أنهيت سنتي الثانية، فرد علي قائلا: هذا ليس من شأني أو شأن أي موظف هنا وعليك المغادرة فورا تجاه الجانب المصري.
*العبور مرتين*
في تلك الأثناء غادر المدير مكتبه، ومن بعيد لاحظت أن موظف الجوازات قد تغير بموظف آخر لم أره من قبل، فذهبت إليه حاملا جواز سفري ووضعته أمامه مباشرة وقلت له “من طلبة غزة أرجوك زملائي ينتظروني في الخارج” تردد قليلا قبل أن يختم لي بالعبور، وبالفعل سرت مسرعا عبر مبنى الجوازات الليبي وخرجت حتى وصلت موقف الحافلات، لكني تفاجأت بعلي يأتيني مسرعا ومن خلفه باقي الطلبة الغزيبن الذين تم السماح لهم بالعبور ليخبرني بلهجة ملؤها الخوف “أيمن مدير الجوازات كشف أمر عبورك وقام بحجز جوازات سفرنا جميعا، وإن لم ترجع معنا سوف يقوم بترحيلنا جميعا إلى الجانب المصري”. عدت إلى مكتب مدير الجوازات وبرفقتي باقي الطلبة، حيث بدأ المدير بكيل الشتائم لي مهددا إياي بأنني فعلت ما لم يفعله أحد من قبل، وبأنني اخترقت القانون ضاربا سيادة البلد عرض الحائط…حيث قام بأخذ جواز سفري مني مشطبا بقلم الحبر على ختم العبور ثم رماه لي على الأرض.
يتابع أيمن ويقول، خرجت من مكتب المدير وقد اسودت الدنيا في وجهي واقتربت من البكاء، غير أن علي عانقني وبدأ الشباب بالتربيت على ظهري قاصدين التخفيف عني، لقد صممت في نفسي أن لا أغادر المكان ولو بقيت سنة كاملة قبل الدخول وإكمال دراستي، ودعت الشباب بسرعة وخرجت بدوري إلى المنطقة الحرام ﻷجد قاطن البيتل بانتظاري. رغم قساوة العيش داخل خيمة البيتل وسط الصحراء فلا وجود لدورة مياه أو مكان للطهي أو أي شىء، فقد منعت من مغادرة المنطقة الحرام تماما كقاطن البيتل، رغم ذلك، يقول أيمن لقد كانت حياة عشوائية ندية جميلة جدا صاغت شخصيتي فيما بعد، وأصبحنا من معالم حدود مساعد الليبية لفترة من الزمن أنا وقاطن البيتل، حتى أن بعض المسافرين التقطوا ﻷنفسهم الصور معنا. عصر ذلك اليوم في التاسع عشر من ديسمبر/كانون أول من عام 1994 وقف ذلك العسكري الليبي وهو ينادي بإسمي كي أراجع مدير الجوازات، كنت قد قضيت وقتها خمسة وأربعين يوما على حدود مساعد الليبية حين سمح لي أخيرا ذاك المدير بعبور الحدود الليبية بعد أن طبع ختم العبور بنفسه على جواز سفري مبلغا إياي بأنه لم يعد قادرا على تحمل المزيد من الحزن ﻷجلي وأنا أقطن البيتل مع ذاك الفلسطيني المطارد المطرود.