بقلم : تحسين يقين
على هامش مداولات اليونسكو حول انتهاكات سلطات الاحتلال الإسرائيلية للقدس والتعليم، بالاستناد إلى الحقوق والتاريخ والقانون الإنساني، كان الدبلوماسيون الإسرائيليون يعدون فيلما يتناقض مع ما ذكرنا، غير آبهين لأحد، ولا مصغين إلا لعنادهم.
لنا في المؤرخين وعلماء الآثار الفلسطينيين والعرب وغيرهم من المنصفين مثال أخلاقي وعلمي، حين اختاروا طريق العلم، فتحدثوا وكتبوا عما يرون على الأرض وفيها من آثار خطوات وأياد لأقوام مرّت هنا، دون نفي لقوم أو إثبات مبالغ فيه لآخرين. ذلك هو منطق القوي النزيه، أما منطق ضعيف الحجة، فإنه يلجأ للعب بالكلمات والمغالطات والانتقاء، مستخدما أساليب الجذب الإعلامي والفني، علما بأن أسلوب الإخراج أصلا قد تم استنساخه وسرقته من أفلام أخرى، من الفيلم الأميركي "المتحف"، وأفلام يوسف شاهين، وأفلام آخرين استخدموا التاريخ مع الواقع المعاصر كفانتازيا مثيرة للأسئلة.
الفيلم الذي حمل اسم "عائلة راحيل ويعقوب" الذي أنتجه قسم الإعلام والاتصالات في وزارة الخارجية الإسرائيلية، هو مثال على هذا المنطق الذي وجد له مكانا على موقعها، والذي شاهده عدد كبير من المتصفحين/ات.
تحاول بضع دقائق من الدراما نفي تاريخ البلاد!
وحتى يضمنوا جذب الجمهور، قام المخرج باستخدام الكوميديا والفانتازيا، عبر تصوير عائلة راحيل ويعقوب اللذين يقطنان في شقة معاصرة، حيث يتكرر دق جرس البيت، ليفاجأوا ببشر قادمين من التاريخ بأزيائهم وأسلحتهم القديمة، طالبن إعادة تملك البيت وطردهما منه.
يصل في البداية الأشوريون ويليهم مبعثو نبوخذ نصر، فاليونانيون والرومان والفرنجة الأوروبيون، والعثمانيون، إلى أن يصل في نهاية الفيلم مبعوث بريطاني ويعلن بشكل جديّ عن اتخاذ الأمم المتحدة قراراً باعطاء اليهود «بلادهم» اذا وقعوا هنا وهناك. في هذه الأثناء، يطرق الباب فييظهر زوجان يضع الرجل كوفية وتضع المرأة حجابا، في إشارة إلى الفلسطينيين.
يقرر صناع الفيلم أن البيت هو ملك راحيل ويعقوب فقط، وأن الآخرين لا حق لهم، هم مجرد أقوام مرت على البيت-الأرض-الوطن، ناسيا أو متناسيا أنهم أيضا مروا من هنا، وليس هذا فحسب، بل ساوى بين أهل البلاد الأصليين وبين الحضارات والغزاة والمغامرين والأمم التي مرت هنا.
الفيلم ينتقي، فهو يبدأ بالأشوريين، فلم يأت على ذكر الكنعانيين ولا الفينيقيين ولا اليبوسيين، وينتهي بتقسيم البيت، في إشارة لقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة.
وهو يسخر لا في الجزء الأخير حيث اقتراح الضابط الانجليزي، بل يسخر في جميع دقائق الفيلم، وقد عمد إلى إثارة شفقة الجمهور، وتضامنه، تماما كما يفعل الإسرائيليون.
رد الفلسطيني أحمد الطيبي من فلسطينيي عام 1948 أهل البلاد الأصليين، كان ساخرا هو الآخر: "تفقد السياسة الخارجية الاسرائيلية صلتها بالواقع، أن المحاولة السخيفة لسلب الفلسطينيين ارتباطهم بوطنهم جديرة بالشفقة، لم نصل الى هنا لا بسفينة ولا بحافلة، نحن ملح البلاد".
"لم نصل الى هنا لا بسفينة ولا بحافلة"، اختصار كاف للرد على ما كان من تهجير الحركة الصهيونية ليهود العالم إلى فلسطين.
ترى ماذا وجد المهاجرون اليهود هنا منذ القرن التاسع عشر؟ هل كانت البلاد بدون شعب فعلا!؟
لم يكن ليوفق الفيلم كما تمنت وزارة الخارجية الإسرائيلية، لسسب بسيط وهو المنطلق العنصري!
لم ينف أحد علاقة اليهود بفلسطين ولا اليهودية كدين سماويّ، بل ما ينفيه الموضوعيون هو استخدام الدين خدمة للكولينيالية.
ثمة دلالات واضحة تمنحنا معرفة أي صراع هنا نعيشه؟
من السهل على العنصري نفي العقل والمنطق والأخلاق والتاريخ والموضوعية في سبيل إثبات قناعته، التي هي إحدى مخرجات الفكر الاستعماري الذي يبيح لنفسه الاستلاب.
"التاريخ أكبر من الجغرافيا في هذه البلاد" تلك مقولة الشاعر والفيلسوف محمود درويش، ولعنا هنا نضيف بأنه أكبر كثيرا من اختلاق تاريخ خاص ينفي صلة أصحاب الأرض الأصليين بالأرض، ويحتكر التاريخ له، من أجل احتكار الجغرافيا، أي الحيز والفضاء والأرض، على سبيل أنها بلا شعب، كما منح من لا يملك يوما من لا يستحق، اتساقا مع العبارة الأكثر كذبا وتزويرا، والتي قامت عليها الحركة الصهيونية: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!
عودة إلى قرار اليونسكو، وكيف تفسّر إسرائيل وتلوي عنق النص الأممي:
تبنى اليونسكو قرارا يدين الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وطالب بوقفها، وهو يختلف عما تزعمه دولة الاحتلال التي تحرّض على اليونسكو بأنها تنفي علاقة الدين اليهودي بالقدس.
القدس أرض محتلة ينطبق عليها القرار الدولي 242، فالقدس وأهلها لم يعادوا أي دين، فهل عادى الفلسطينيون الدين المسيحي بسبب الحملات الفرنجية المتتابعة التي تعرضنا لها في الشام ومصر؟
إن مبررات الاحتلال فيما يخص الدين هي لإطالة الاحتلال، وكلنا يعرف ما قاله بن غوريون عشية تأسيس دولة إسرائيل، وزهده بالبلدة القديمة، حيث كان الاتجاه الاستعماري هو الغالب، لذلك يجب ألا نمنح إسرائيل أي مبرر لإطالة الاحتلال.
لقد كان مقدمو القرار لليونسكو من فلسطينيين وعربا مدركين لهذا النوع من التفكير، حيث لم يغب عتهم المنطق الاستعماري، فضمنوا في الديباجة التأكيد على أهمية مدينة القدس القديمة وأسوارها بالنسبة إلى الديانات السماوية الثلاث، حيث أننا لا نؤمن بذلك فقط بل نعتز بذلك.
لبقي أن أتحدث عن تأملي الشخصي بالفيلم، حيث أنني كنت قد لجأت للفنانازيا في نص لي عن تصور القدس عام 3000، نشرت جزءا منه في ذيل كتابي التجوالي : القدس تجوال العين والروح، وأترك للقراء والقارئات الحكم على منطلقاتي ومقارنتها بمنطق الفيلم الدعائي "عائلة راحيل ويعقوب"، من خلال اقتباس جزء من النص الذي تأثرت به برواية نجيب محفوظ "أمام العرش"، وبأسلوب بانوراما الصوت والضوء التي كانت تبث لفترة طويلة عند هضبة الهرم ليلا:
كأنني غفيت قليلا، فرأيت ما رأيت من وجوه حكام وأمراء من عهود متعددة وقد جلسوا كأنهم عاشوا وتعارفوا معا.
هل هذا حلم؟
لا بد أنه كذلك، وإلا فما الذي جمعهم هنا كأنهم في كتاب..!
لعلي أتسلل، وأراقب.
هم بشر مثلنا، ولكن تختلف الملابس، منها ما هو غريب، ومنها ما هو قريب، ومنها ما بين الاثنين.
حلم، أو حقيقة، لم أعد أدري، لكنني أراهم معا، كل وزيّه الذي رأيته في الأفلام واللوحات الفنية.
عندما أنظر إلى أحدهم، ينقلب الإنسان بسحر ساحر إلى مكان، فأرى أرضا وتلالا بيضاء، ثم تتجلى داخل هذا البياض بيوت وشوارع، وبنايات مختلفة، لا تلبث أن تبدأ بالاختفاء ليظهر مكانها بيوت وشوارع وبنايات أخرى عندما أنظر تجاه شخص آخر، وهكذا، وألمح في كل الأماكن هذا المكان، فأعرفه مما تبقى منه، أطلال سور كأنه متحف في الفضاء، وهذه القبب ذات الألوان، ومآذن وأجراس وأبراج ومنارات. وصولا إلى زمننا".
هذه هي الروح الفلسطينية الإنسانية التعددية التي لا تنفي أحدا..
وتلك هي العنصرية في صورتها البغيضة!
- See more at: http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=11ab2f5fy296431455Y11ab2f5f#sthash.l17mAnbd.dpuf


