قصف المستشفيات وتدميرها وإخراج كل الأطقم الطبية والدفاع المدني من الخدمة الإنسانية، وقطع إمدادات الطعام والمياه، يعني تدمير مقومات العيش الإنساني في المدينة، وترك البشر كباراً وصغاراً يواجهون موتهم ومصيرهم المأساوي وحدهم.
مشاهد تقشعر لها الأبدان. ربع مليون إنسان وأكثر باتوا تحت رحمة آلة الحرب الوحشية. أسبوع مضى على استئناف الهجوم التدميري ومشاهد الأطفال والنساء والجرحى يموتون أو يستغيثون من تحت الأنقاض. حلب تحترق بالصواريخ والبراميل وبأسلحة تستخدم لأول مرة ويموت أبناؤها، وتموت معهم القيم والأخلاق.
أمام هذه المشاهد المروعة والمصير المأساوي تقف هيئة الأمم المتحدة عاجزة عن وقف الموت والدمار، بعد أن أخفقت في إيجاد حل سياسي سلمي للصراع في سورية وعليها، والآن تقف الأمم المتحدة عاجزة عن صون ميثاقها وقوانينها كناظم ومرجعية لكل الدول والشعوب في الحرب والسلم، ذلك الإخفاق الثلاثي الأبعاد الذي تكرر في فلسطين والعراق من قبل أطاح بهيبتها ومصداقيتها ودورها المفترض في صون السلم.
لقد استطاعت روسيا وأميركا تحويل المؤسسة الدولية إلى شاهد زور على مأساة الشعوب، وأطاحتا بالعدالة النسبية التي تاقت إليها الشعوب. و"العالم الحر" الذي لطالما قدم نفسه مدافعاً عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات العامة، يقف متفرجاً عاجزاً عن وقف مجزرة حلب واضعاً نفسه في موقع شريك فيها.
حلب تُدَمَّر ويموت أهلها من أجل ماذا؟ سنجد الإجابة عند الطرف الأقوى في هذه الحرب، روسيا تتعجل الحسم في أسرع وقت، وقد زجت بأسلحتها الثقيلة وشرعت باستعراض قوتها أولاً، ثم سرعان ما انتقلت إلى توجيه الضربات العنيفة والمدمرة في حلب وحمص وإدلب دون ضوابط أو خطوط حمراء. روسيا حرة في خوض هذه المعركة بأريحية غير مسبوقة في العلاقات الدولية وتوازناتها. كانت حرة التصرف إلى حد كبير في عهد أوباما، وأخذت ضوءاً أخضر من الرئيس المنتخب ترامب الذي سبق وأن تعهد بالتعاون مع بوتين ونظام الأسد ضد "داعش".
ها هي الدولة الكبرى المترنحة اقتصادياً تأتي بكل ثقلها إلى سورية كي تبني منطقة نفوذ إستراتيجية وتستعيد مكانة الدولة العظمى مصالحها الحيوية في مناطق نفوذ قديمة وجديدة وكي تستخدم الورقة السورية لتحسين شروطها في البلقان ومع أوروبا.
جاءت روسيا بترسانتها العسكرية كي تحارب "داعش"، كما جاءت أميركا وتركيا ودول التحالف الدولي لتحارب "داعش". الكل جاء لمحاربة "داعش" كهدف معلن يغطي على أهداف خاصة ومطامع غير معلنة.
هل يوجد خلاف بين المعسكرين؟ تفاهم روسيا مع إسرائيل يشكل نقطة التقاء جوهرية مع المعسكر الأميركي الذي يعتبر إسرائيل أهم الحلفاء على الإطلاق، والإعجاب المتبادل بين ترامب وبوتين الذي أفضى إلى تفاهم حول الدور الروسي يشكل بدوره نقطة التقاء جوهرية، والتفاهم التركي الروسي بعد مدة قصيرة من العداوة يعد من نقاط الالتقاء المهمة بين المعسكرين، والحرب ضد "داعش" وإلى حد ما ضد "النصرة " هدف مشترك يطبق بأريحية في العراق وبتباين الأدوات في سورية، وهو بند مشترك يحتاجه الجميع في التغطية على أطماعهم.
وكان اتفاق (5+1) مع إيران نقطة التقاء حول النفوذ الإقليمي. وبقاء النظام السوري مع تباين حول بقاء أو زوال بشار الأسد ، ذلك التباين الذي أخذ يضيق لمصلحة التعايش مع بقاء الأسد. والعداء للتغيير الديمقراطي السلمي المستقل في سورية عنصر مشترك اجتمع على محاربته وقطع الطريق عليه الحلفان، مضافاً إليهم تنظيمات الأصولية الدينية وأنصار العسكرة والحسم العسكري.
تبقى الخلافات على حجم الحصص والنفوذ، وعلى سعي روسيا لاستخدام النفوذ في سورية لدعم مواقعها في البلقان وفي أوروبا، وحصة المعارضة السورية المستأنسة في تركيبة النظام القادمة، والتوازن بين حصص تركيا وإيران والسعودية في سورية.
عناصر الالتقاء في الأساسيات وعناصر الاختلاف في الحصص لا نصيب للشعب السوري فيها أبداً كطرف مستقل، فقط يتلقى هذا الشعب الصواريخ والبراميل والقنابل والرصاص، يقتل وتدمر مدنه وبلداته ويهجر خارج وداخل وطنه وتنتهك إنسانيته بالاعتقال والتعذيب ويفقد مصدر عيشه.
الكل موجود داخل المعادلة ما عدا الشعب، الكل يتصارع على سورية وكأن شعبها غير موجود، وهذا يطرح دور المعارضة الوطنية التاريخية والمعارضة الديمقراطية المستقلة التي أزيحت جانباً وكأنها غير موجودة. لماذا لم تتحمل مسؤولية إنقاذ وحماية المدنيين، لماذا لم ترفع صوتها عالياً بمواقف ومبادرات تعبر عن مصالح الشعب السوري، ولم تكشف حقيقة التدخل في مواقف الهيئات المنبثقة عن المعارضة المعترف بها (مجالس وهيئات وحكومة مؤقتة).
في كل قضية ومعركة كان ينبغي تحديد المواقف المنسجمة مع مصلحة الشعب السوري بشكل صريح. تأمين الحماية للمدنيين في حلب وكل البلدات والأحياء المحاصرة كان القضية الأهم في الأشهر الأخيرة وفي هذه الأيام. حماية الشعب وعدم استخدامه وقوداً لتحسين شروط هذا المعسكر أو ذاك، وهي تعلم أن المعسكرين متحدان ضد حرية الشعب السوري.
كان الدور المأمول للمعارضة الوطنية الديمقراطية هو إخراج الشعب السوري من المقامرة الوحشية بين معسكرين بكل امتداداتهما الإقليمية والدولية، بين المعسكر الدولي الخليجي الذي يرغب في توريط الروس والنظام وإيران والمليشيات في جرائم وفظائع حرب بهدف إضعافهم في المقايضة الأخيرة، وبين المعسكر المكون من هؤلاء الذين لا يرف لهم جفن وهم يدمرون ويقتلون من أجل تحسين شروطهم في المقايضة الأخيرة.
فقراء وأطفال وأهالي حلب جميعاً يدفعون ثمناً باهظاً لقاء هذه المقايضة البشعة. موت السوريين في حلب ليس "فرجة" ولا بديل عن وقف المجزرة.. لماذا لا ترتفع الأصوات في كل مكان لإنقاذ المدينة وناسها ولإنقاذ سورية وشعبها الذي يتعرض لأبشع أشكال التآمر والعدوان.
Mohanned_t@yahoo.com


