في الطريق إلى المؤتمر الدولي للسلام (8)...حسين حجازي

السبت 19 نوفمبر 2016 01:45 م / بتوقيت القدس +2GMT



 الهجوم ثلاثي الأضلاع وقنبلة ليبرمان

 
في الطريق الى المؤتمر الدولي للسلام الذي تقرر عقده عند منتصف الشهر القادم، ولكن بعد أسبوع واحد فقط من انتخابه فاجأنا الرئيس الأميركي الجديد والمثير للجدل، بتصريحات اعتبرت جيدة نوعاً ما لنا وسيئة بالنسبة لإسرائيل. قال الرجل فيما بدا وكأنه يعد نفسه للعب دور المخلّص للإنسانية، انه وكرمى لهذه الإنسانية سوف يعمل مستخدما مهاراته ونجاحاته كرجل اعمال، مشهود له بالعمل على التوصل الى صفقة سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تنهي هذه الحرب التي لا تنتهي، مشيراً الى فشل كل من سبقوه في حل هذا النزاع، وانه سوف يحقق هذا الإنجاز العظيم عند دخوله البيت الأبيض كأولوية له. 
كلام جميل والأجمل منه هو ربطه الواضح بين القضية الفلسطينية وبعدها الكوني الإنساني، باعتبارها هي الحقيقة او المسألة الجوهرية والثابتة، ما بعد الكلمات التي قيلت كضريبة كلامية اثناء الحملة الانتخابية. وهو كلام يطمئن العالم ويطمئننا، ولكنه نزل كدش بارد على اقوال خرقاء حقاً قيلت على لسان نفتالي بينيت من ان عهد الدولة الفلسطينية قد ولّى مع انتخاب دونالد ترامب. الامر الذي دعا بنيامين نتنياهو الطلب على نحو لا يخلو من دلالة من جميع وزراء حكومته إغلاق أفواههم، وعدم الإدلاء بأي تصريحات او تعليقات على انتخاب الرئيس الأميركي الجديد. 
وربما فيما قاله الرجل أي الرئيس الجديد الذي قوبل بمظاهرات احتجاجية واسعة على انتخابه، رسالة الى الأميركيين أولا من بوابة المظلمة الفلسطينية، الى ان سياسة الرجل لن تكون بهذا السوء او التطرف المجنون وغير العاقل كما يعتقدون او يتخوفون. واذا صح هذا الافتراض فإن هذا الموقف يمكن اعتبارُه من ناحيتنا باعثاً على الارتياح او التفاؤل، وبالتالي التفاؤل بالخير على طريقة الحكمة الشعبية التي نرددها «لعله خير». 
 والواقع ان ما يسقط هنا في سياق هذا الكم من التعليقات والتحليلات لخطاب الرجل، هو ان ما يبدو من عداء اظهره الرجل في حملته الانتخابية للمسلمين والأقليات الأخرى، اللاتين والسود الافريقيين والاسبان، انما يمتد ليشمل اليهود او ما يحب ان يسميه الإسرائيليون معاداة السامية. وعلينا ان نعرف هنا انه اذا كان الرابط في هذا الخطاب اليميني القومي المتطرف بين الإسلام والإرهاب، فإن الرابط الضمني في هذا الخطاب عن فساد المنظومة الحاكمة في واشنطن، انما هو بين هذا الفساد ونفوذ اللوبي اليهودي المالي والإعلامي الذي تمثله «الايباك»، في استعاده للخطاب القومي الشوفيني الأوروبي ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، والذي رافق أيضا ولادة ومهاد الدولة القومية البرجوازية. 
هذه لحظة فارقة اذن لا نشهد في سياقها نوعاً من الانقلاب الداخلي على النظام في الولايات المتحدة السائد او القديم، ولكن هذا التحول يبعث برسالة تحد الى أوروبا على الضفة المقابلة للاطلسي، بأن على أوروبا الاعتماد على نفسها بعد الآن. وان تملك الجرأة والإرادة بأن تقوم هي في هذه المرة بملء الفراغ الذي تتركه أميركا على انسحابها او استقالتها، او انغلاقها على ذاتها داخل حدودها، في تبادل نادر للادوار كما كان عليه الوضع بعيد الحرب العالمية الثانية. 
وهو تحول او انقسام  بين الحليفين التاريخيين أوروبا واميركا، ليفصم وحدة الغرب لكنه يقترن بالوقت نفسه بخوف مستتر أيضا من عدوى سيطرة النزعة اليمينية لتيار الوطنية اليمينية على مقاليد الحكم في أوروبا، في ارتكاسة واضحة ومريرة اختبرتها أوروبا في عقد الثلاثينات من القرن الماضي، ودفعت ثمنها غاليا في الحرب العالمية الثانية. وهو تخوف غذته السيدة ماري لوبان زعيمة الجبهة الوطنية  اليمينية المتطرفة في فرنسا، حين قالت ان نجاح ترامب يشجعنا ويدفعنا في فرنسا وأوروبا، أي كل هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة للمطالبة بالسلطة بعين قوية.  
هل هو اذن التمسك بل التشبث والتأكيد على الخطاب الأوروبي الإنساني الثقافي والفكري، أي خطاب الاعتدال الحضاري والجامع الذي يعكس الروح والتقاليد الأوروبية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وترى أوروبا بان انتخاب ترامب يمثل تهديدا بالخروج عنه، ما يقف الآن وراء الانتقال الأوروبي اي فرنسا والمانيا تحديدا، الى إظهار أولا هذا القدر من الدور القيادي العالمي، وتاليا محاولة الضغط على الإدارة الأميركية الجديدة لعزلها او كبح جماح تهورها او اندفاعها الى اليمين. وان المفارقة الكامنة في منطق هذا التحليل، انما في هذا الالتقاء او التوافق الخارق او المدهش على ضرورة أولوية القضية الفلسطينية، باعتبارها بالنسبة الى ترامب نوعا من المزايدة او التفوق على عجز النظام الأميركي السابق، وعلى الخطاب اليساري الأوروبي معا.  
أما بالنسبة لأوروبا فإنها البوابة او المدخل لإعلان الفطام وقطع الحبل السري مع ذات النظام الأميركي القديم، الذي يعلن ترامب اليوم الثورة عليه. والذي لم يكن يسمح لأوروبا بلعب دور قيادي او خارج الهوامش المحدودة التي كانت الإدارات الأميركية السابقة تحددها للأوروبيين. 
هذه نقطة تحول ربما غير مسبوقة في المشهد الدولي ككل، وانه من حسن الطالع انها بالمجمل تلعب لصالحنا، اذا كان ما اسماه ماركس في فلسفته الديالكتيكية بقانون وحدة وصراع «الأضداد» او «المتناقضات»، والذي يشكل اليوم المفهوم المؤطر للعلاقة التي تميز المثلث الممسك بمصير العالم والشرق الأوسط، أمريكا دونالد ترامب وروسيا بوتين وأوروبا فرنسا وألمانيا، انما نقطة الالتقاء الأكثر وضوحا من خلف تعارضاته هي الإجماع على حل المسألة الفلسطينية.  
هل نفهم او نفسر بعد ذلك مغزى تأكيد الفرنسيين قبل أيام على موعد انعقاد المؤتمر الدولي في باريس منتصف الشهر القادم، وذلك سواء حضرت إسرائيل المؤتمر ام لم تحضر في رسالة واضحة الى ترامب وإسرائيل معاً، على مضي أوروبا بعزمها انهاء هذه الازمة ام الأزمات جميعا في الشرق الأوسط، ومرجل النار الذي يغذي كل اشكال الإرهاب في المنطقة والعالم. وهل نفهم في هذا السياق نفسه زيارة رئيس الوزراء الروسي الى إسرائيل واريحا، في الوقت نفسه الذي تستعد فيه روسيا لحسم معركة حلب وملاقاة ترامب بعد ذلك؟ بعد تقرير مصير سورية لمصلحة روسيا، للاتفاق على تقرير مصير الشرق الأوسط والتوازن العالمي الجديد بين أضلاع هذا المثلث الأميركي الأوروبي الروسي، انطلاقا من التحول الى انهاء واطفاء ما اسماها ترامب الحرب التي لا تنتهي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكل ذلك من اجل الإنسانية جمعاء.  
ثلاث مبادرات اذن لا سابق لها ان طرحت في وقت متزامن على طاولة البحث الدولية؛ أميركية وروسية وأوروبية، يبدو ان الشرق الأوسط او الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بات على موعد معها، او في وضع من التفاعل معها وهي أنباء غير سارة لليمين الإسرائيلي، بحيث يبدو ان كل واحدة بين هذه المبادرات أحلاها مر. اذا كان ما يجمعها نهاية عهد التوسعية الإسرائيلية وفرض حل الدولتين هو نهاية عهد الاستيطان والاحتلال. 
هل نقدر اذن عند هذه اللحظة الفاصلة قراءة رجل واحد يبرز الآن من بين صفوف حكومة نتنياهو، هو افيغدور ليبرمان والذي قام الخميس الماضي بتفجير ما يمكن اعتبارها القنبلة السياسية غير المسبوقة في صدورها هذه المرة عن رجل لا يمكن تصنيفه من قبل على انه يساري، حينما دعا على نحو صريح لوقف الاستيطان خارج الكتل الرئيسية، ونقل عن حاشية ترامب نصيحتهم بوقف هذه الإجراءات الاستيطانية التي اعتبروها أحادية الجانب.  
ويبدو اليوم انه قد قرأ على نحو جيد بل وذكي، من منظور طموحاته السياسة على الأقل، مغزى هذا التحول ثلاثي الأبعاد في الموقف العالمي. وان الوقت هو البحث عن تسويات وانه ليس أمام إسرائيل سوى القبول أخيرا بهذا الخيار.