فوز دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ببرنامج شعبوي إشكالي، هز المجتمع الاميركي ومعه شعوب ودول العالم، وأحدث صدمة ما تزال تفعل فعلها، ولم يغادر هذا الحدث مركز الصدارة والاهتمام والتأييد والرفض والاستعداد للمخاطر. ردود الفعل المتوالية تقدم أكثر من مؤشر على وجود ظاهرة كونية أفرزتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية. ظاهرة لم تكن وليدة ترشح ترامب لانتخابات الرئاسة، بل انبثقت عن تحولات عميقة داخل المجتمع الاميركي، وفي بلدان أخرى، وقد كان مسكوتا عنها أو مموهة من قبل النخب السياسية والبيروقراطية للحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري. لقد أخرج ترامب العنصرية من قمقمها لتتصدر المشهد بوجهها القبيح، وتأخذ شكل المجاهرة بكراهية البيض للسود، وبكراهية اللاجئين، على وقع وعود الرئيس المنتخب بطرد الملايين منهم. ونجح في خلط الاوراق بين نظام اقتصادي دخل في طور التوحش وبين الفئات المهمشة والفقيرة والمتوسطة التي دفعت ثمنا باهظا جراء السياسات الاقتصادية، ملايين من تلك الشرائح انتخبت ترامب الذي وعد بنظام ضريبي لمصلحة كبار الرأسماليين الذين ليس لهم من هدف غير مضاعفة ثرواتهم ونهبهم، ووعد بإلغاء برنامج "أوباما كير" للتأمين الصحي، وحط من شأن النساء بفضائحه وخطاباته التي حفزت التيارات الرجعية للهجوم على مكاسب حركة النساء. تلك كانت المفارقة الكبيرة في هؤلاء الذين انتخبوا ترامب بالضد من مصالحهم وبخاصة 52% من بين النساء اللواتي مارسن حقهن الانتخابي ذهبت أصواتهن له.
ولأن ترامب أزال الغموض والتمويه عن الواقع الذي يغص بالتناقض، فقد بدأ نوع من الاستقطاب الجديد الذي تجاوز الأنماط التقليدية. ظهر للعيان تيار معارض يضم حركات اجتماعية ونقابات ومثقفين وإعلاميين ومنظمات نسوية واتجاهات سياسية في مواجهة التحول الذي أفضى الى صعود ترامب . كان الرد سريعا حين خرجت مسيرات احتجاج لليوم الرابع على التوالي ضد انتخاب ترامب. وثمة مؤشرات على استمرار وارتفاع وتيرة الاستقطاب والاحتجاج داخل الولايات المتحدة، سواء توازن ترامب بفعل تدخل الدوائر والمؤسسة أم بقي على خطابه الشعبوي، فالترامبية "لم تكن حملة انتخابية عابرة بل حركة" كما قال ترامب في خطاب الفوز.
كان لفوز ترامب صدى كبير خارج أميركا، تبدى أولا بترحيب الحركات العنصرية المتشددة بذلك الفوز، فقد اشادت ماري لوبان زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف بالنجاح، واعتبرت أنه يفتح المجال أمام "عالم جديد يحل محل العالم القديم، إنه ترامب الذي جعل ما كان يعتبر مستحيلا تماما أمرا ممكنا". وحظي فوز ترامب أيضا بتأييد الدكتاتوريين الذين بادلوه الاعجاب والاستعداد للتعاون. وكان نتنياهو من أوائل المهنئين بفوزه وقد تلقى الدعوة لزيارة واشنطن كدفعة على الحساب. وكان فريق من الاسرائيليين على اتصال مع حملة ترامب طوال الوقت يرسمون الخطط على شرف فوزه. كان الأكثر ابتهاجا وزير التعليم "نفتالي بينت" حين قال سيكون فوزه فرصة نادرة لتراجع إسرائيل عن حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية، وقرأ في فوزه نهاية لعهد حل الدولتين. وتوقع وزراء إيفاء ترامب بتعهداته ويحول نقل السفارة الأميركية إلى القدس من الاقوال إلى الأفعال.
والأكثرية من اعضاء كنيست ووزراء رأوا أن صعود ترامب الى البيت الابيض يعني زوال الضغط الاميركي الذي كان يمارس على حكومة نتنياهو، ويسمح في الوقت نفسه باستئناف الاستيطان دون قيد او شرط . تقول وسائل الاعلام الاسرائيلية إن الحكومة تخرج من الادراج مخططات البناء بما في ذلك مخطط بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وإقامة أحياء استيطانية جديدة في قلب الاحياء العربية، ويتحمس البعض الى محاولة تغيير الوضع الراهن في المسجد الاقصى. اخطر المخططات الاسرائيلية المنوي طرحها على بساط البحث كما يقول "يوتم بيرغر" و"نير حسون" في مقالهما بعنوان : الاستعداد لموجة الاستيطان / هآرتس : مخطط البناء فيE1 قرب مستوطنة معاليه أدوميم، ومخطط قرب مستعمرة جفعات عتيام بين مستعمرة أفرات وبيت لحم، ومخطط في جفعات همتوس شرقي القدس" ثلاث مخططات بحسب شروحات سابقة ستقطع أوصال جنوب الضفة وتفصل مدينة القدس بالكامل عن محيطها. كانت إدارة أوباما تمنع العمل بهذه المخططات. الحكومة الاسرائيلية وقد تحررت من الضغط والتدخل الامريكي كما تتوقع الاوساط الاكثر تغولا في مجال الاستيطان، ستضع تلك المخططات قيد التنفيذ. ليس هذا وحسب بل هناك مخططات إضافية قد يتشجع أركان الحكومة على طرحها وهي :" حي استيطاني كبير في المنطقة الصناعية "عطروت" شمال غرب القدس، وحيان في باب الساهرة ورأس العامود داخل مدينة القدس. كما يلاحظ فإن حكومة نتنياهو وقيادات الاستيطان يستنفرون كل طاقتهم لتثبيت حقائق إضافية وتدمير ما تبقى من مقومات الدولة الفلسطينية، ويرون في ترامب سندا وراعيا لهذه العملية.
في كل الاحوال، فإن الوضع الفلسطيني برمته أمام تحديات أكثر خطرا، صحيح ان إدارة أوباما لم توقف الاستيطان، ورضخت أمام التوسع الاستيطاني التراكمي اليومي، لكنها عطلت العمل بالمخططات الكبيرة الحاسمة في المشروع الاستيطاني، وأبقت على نافذة فرص ضئيلة للدولة الفلسطينية كما اعتقد البعض، تلك النافذة التي كانت حكومة نتنياهو تغلقها بفعلها التراكمي، الان وبعد فوز ترامب، من المرجح إغلاق النافذة الصغيرة عبر الشروع بتنفيذ المخططات دون تحفظ من أحد أو عبر تسريع وتيرة التوسع التراكمي اليومي في حالة اضطرت إدارة ترامب للتوازن بعض الشيء. في كل الأحوال فإن حكومة نتنياهو تعمل في الخطين بطاقة عالية، وما عملها لاضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية إلا مؤشرا على دفع الامور الى تلك النهاية المنشودة وهي قبر حل الدولة الفلسطينية.
وإذا كانت حكومة نتنياهو قد غيّرت من استعداداتها للانقضاض على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والمدنية وموارده الطبيعية، فإن القيادة السياسية الفلسطينية بكل ألوانها ومعها المجتمع المدني مطالبة بتغيير استعداداتها لمواجهة التحديات الاكثر صعوبة وتعقيدا. قد لا يكون الشعب الفلسطيني وحيدا أمام استفراد حكومة نتنياهو في عهد ترامب، فالذين يحتجون ويقاومون الترامبية في أميركا، وفي أوروبا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، سيكونون حلفاء طبيعيون للشعب الفلسطيني، الذي سيكون جزءا من الجبهة العالمية لمقاومة التوحش والعنصرية وغطرسة القوة والاستبداد والارهاب. لكن ذلك يحتاج الى تعديلات اساسية في البنية وفي السياسة، يحتاج الى مبادرات خلاقة.
Mohanned_t@yahoo.com


