من بين كل ألقابه يبقى لقب «أبو عمار» هو الأقرب إلى الوجدان.
من أين اجترح محمود درويش هذه المقولة العبقرية حين أبّن الشهيد القائد «أبو عمار»؟ كأنه استلها من دواخلنا، ومن تلافيف ذاكرتنا البعيدة والقريبة، ولكنها حية ولحظية الحضور في الحالتين.
الشيء الذي منه في كل واحد منا يتنوع، بقدر ما كانت شخصية أبو عمار شديدة التنوع، فهو لم يكن يوماً من الشخصيات ذات البعد الواحد مهما كانت طبيعة وخصائص ذلك البعد.
الشيء الذي منه فينا، يمتد من التقدير والإعجاب الاستثنائيين به كشخصية استثنائية، إلى التوافق مع برنامجه النضالي الوطني وخططه وقراراته التنفيذية بشكل عام - حتى من موقع الاختلاف معه ومعارضته على مواقف محددة أو سياسات بعينها- إلى ذكرى اجتماع به أو لقاء معه في حدث أو مناسبة نضالية أو جماهيرية أو اجتماعية.
وربما جاء الشيء الذي منه من باب الإعجاب بشجاعته، وهل يمكن رؤية «أبو عمار» إلا والشجاعة صنوه، وبقدرته على الصمود والتحايل على الظروف الصعبة، أو من باب الإعجاب العالي بقدرته على الاستمرار وتمسكه بالهدف النهائي للنضال مقترناً بالثقة والتفاؤل، حتى في أحلك الظروف وأقساها أو... أو...
يصعب إلى درجة الاستحالة تحديد لمن تعود نون الجمع في «منّا»، وتستعصي على الحصر في دائرة معينة مهما كانت هذه الدائرة متسعة، أو في أهل وناس زمن معين ومرحلة نضالية بعينها.
إن نون الجمع هذه تمتد وتتسع لتشمل الشخصية الجمعية الفلسطينية بكل غنى تنوعها وزخرف تلاوينها «منوعون كما زهر البساتين». وتتسع أيضاً لمواطنين عرباً ومناصرين أمميين.
أبو عمار ظل واسع الانتشار بقدر ما كان شديد الحضور والتواجد، وبقدر ما كان متاحاً بسهولة وأريحية. كان حاضراً ومتواجداً في كل حدث ومناسبة وموقع، وكان الوصول إليه والتعاطي المباشر معه متاحاً بسهولة ويسر تصل حد العفوية.
ما كان ممكناً لأبو عمار أن يكون بهذا الانتشار والحضور، ومتاحاً إلى هذه الدرجة لو لم ينجح مع إخوانه من قادة التنظيمات في أمرين متلازمين وعلى درجة استثنائية من الأهمية: الأول، توفر الأجواء والعلاقات الديمقراطية في «مجتمع» الثورة الفلسطينية المسلحة بكل تنظيماته، وتلاوينه الفكرية والسياسية المختلفة، وجدية وأساسية التعارض فيما بينها في بعض الفترات. كان أبو عمار يطلق عليها «ديموقراطية غابة البنادق». والأمر الثاني هو تحريم الدم الفلسطيني، فلم يحصل، والكل مدجج بالسلاح، أن جرت حملات مواجهات وتصفيات دموية في مجتمع الثورة، مهما اشتدت درجة الخلاف، اللهم إلا كأحداث فردية محدودة كما في أي مجتمع. لقد ظل الدم الفلسطيني مقدساً محرماً ومصاناً.
ولم يكن الأمران ليتحققا ويترسخا، وما كان «أبو عمار» ليتوج قائداً وطنياً عاماً للكل ويصل لمنزلة « أبو/ باعث الوطنية الفلسطينية الحديثة» كما وصفه الحكيم جورج حبش، لو لم يكن معه كوكبة من القيادات الوطنية ذوي القامات العليا من كل التنظيمات ومن الشخصيات العامة المتميزة، شكلوا مجتمعين ومعهم محازبيهم وجماهيرهم ضمان استمرار شعلة النضال وصمام أمانه، ووحدته في الأطر والمؤسسات التي توافقوا عليها.
يوم التاسع من تشرين الثاني الحالي، تم افتتاح متحف ياسر عرفات، هذا إنجاز مهم وضروري، والشكر لمؤسسة ياسر عرفات والعاملين عليها على هذا الإنجاز ولكل من يسّر وساعد وساهم بأي شكل. في هذا الإنجاز وفاء وإنصاف لمسيرة «أبو عمار» وموروثه النضالي،
وفيه إضاءة على بعض جوانب مرحلة الثورة. لكن يبقى هناك حاجة لدراسة جادة وشاملة حول شخصية أبو عمار ومسيرته، تحيط بكل جوانبها بشكل موضوعي ومنصف، لكن الأهم، هو ضرورة إنصاف مرحلة الثورة المسلحة التي كان عرفات قائدها. هناك جهل بهذه المرحلة المهمة من تاريخ شعبنا ونضاله، بإنجازاتها وقصوراتها وبطولاتها وشهدائها.
وإلى جانب الجهل هناك سياسة متعمدة للتجهيل، تهدف للقطع بين المرحلة النضالية الحالية وسابقتها التي شكلت الحاضنة الطبيعية لنشوئها، وكأنه يراد تغييب - لدرجة الإلغاء - إيجابياتها وإنجازاتها وقيمها وبطولاتها، وهي التي ظلت تشكل الجوهر الغالب في مسيرتها، وكأنّ النضال بكافة أشكاله لم يبدأ إلا مع المرحلة الحالية، وكأن تصدر القادة لقوافل الشهداء في ساحات النضال كرامة نضالية جديدة لم تعرفها مرحلة الثورة المسلحة.
ضرورة إنصاف مرحلة الثورة لا يعني تقديمها بلا أخطاء أو قصورات وربما كبيرة، بل بشكل موضوعي واقعي ومنصف، وهذه الضرورة لا تأتي من باب الحنين إلى الماضي واستحضار أمجاده للتغطية على ما لا يسر من الحاضر، ولا حتى من باب التصدي لسياسة التجهيل المتعمدة، بل هي ضرورة موضوعية:
أولاً: لإنصاف مرحلة كاملة من تاريخ شعبنا ونضاله الوطني بما لها وما عليها، وللتعريف بنضالاتها وإنجازاتها ومناضليها.
وثانياً: للإسهام في الحفاظ على تماسك وتوازن الشخصية الوطنية بشكل عام وفي صلبها تماسك وتوازن شخصية المواطن ذاته.
فالإضاءة الموضوعية على أمجاد ونضالات هذا الشعب تساعد في تحقيق ذلك التماسك والتوازن، وتعمل كمضادات الوطنية تحمي وتقوّي قيمتيّ الانتماء للوطن والاعتزاز بالهوية الوطنية، وهما قيمتان تقع حمايتهما في أول سلم الأولويات، وبالذات بالنسبة للأجيال الجديدة التي تفتح وعيها على الواقع الحالي ومعطياته وتأثيراته السلبية على كل منظومة القيم، وأهمها القيمتان المذكورتان.
هل تقوم مؤسسة ياسر عرفات مشكورة بهذه المهمة، أم تكون هي المبادرة، وأيضاً مشكورة، إلى تشكيل لجنة وطنية شاملة لتقوم بها؟


