محمد كايا: المهاجر الذي يعمل بهمَّة وإخلاص لأجل أمته

الأربعاء 02 نوفمبر 2016 04:01 م / بتوقيت القدس +2GMT
محمد كايا:   المهاجر الذي يعمل بهمَّة وإخلاص لأجل أمته



بقلم د. أحمد يوسف

عندما اندلعت الحرب على قطاع غزة عام 2008, تفاعلت الكثير من شعوب الدول العربية والإسلامية مع قطاع غزة, وقامت بإرسال معونات إنسانية عاجلة للقطاع، وكان من ضمن هذه الوفود وفد تركيٌّ مكون من أطباء وإعلاميين وممثلين عن هيئة الإغاثة التركية (IHH), وكان على رأس هذا الوفد رئيس الهيئة السيد بولند يلدرم, وهو شخصية سبق لي أن التقيت بها قبل عام بمقر الهيئة في منطقة الفاتح - استانبول.

اعتدت خلال أيام الحرب الذهاب إلى معبر رفح لتفقد المغادرين من الجرحى والمصابين، واستقبال القادمين من وفود الدول الغربية والإسلامية التي هبَّت لإغاثة أهل قطاع غزة، والقيام بما يلزم في حدود ما تسمح به الصلاحيات والأوضاع الأمنية، حيث كنت وكيلاً لوزارة الخارجية آنذاك.

ومع تعاظم خبر الحرب على قطاع غزة، وارتفاع أعداد الضحايا يوماً بعد يوم، بدأت تتوافد على القطاع الكثير من الوفود التي تمثل جمعيات خيرية ومؤسسات مجتمع مدني قادمة من دول غربية أو بلاد عربية وإسلامية، حيث كنا نقوم بتوجيه تحركاتها حسب طبيعة مهماتها الإنسانية.

وفي اليوم الخامس والعشرين من الحرب على غزة، اتصل بي الإخوة في المعبر قبيل الظهر، ليخبروني بقدوم وفد تركي، وأنهم سألوا عني كطرف يعرفونه في غزة من جهة الحكومة.. هرعت للمعبر لتسهيل أمر دخولهم، والاطلاع على طبيعة المهمة، وتقديم التسهيلات اللازمة لهم.

وهناك، حيث اكتظت قاعة الاستقبال بالقادمين، وجدت وفداً من خمسة عشر شخص بمهمات مختلفة، وكان بينهم الشخص الذي سبق لي اللقاء به في تركيا السيد "بولند يلدرم"، فقمنا بالسلام على الجميع والترحيب بهم، وعرفنا منهم أنهم يرغبون التوجه لمدينة غزة؛ باعتبارها مركز الحدث الإعلامي, وأيضاً كي يلتحق الأطباء منهم بمستشفى الشفاء للعمل مع الأطقم الطبية العاملة هناك.

كانت الأخبار تتحدث عن قطع الجيش الإسرائيلي للطريق بين الشمال والجنوب عند منطقة نتساريم، وبالتالي لن يتمكن الوفد من الوصول إلى غزة, وعلينا تدبير أمر إقامتهم في الجنوب.. وكما هو معروف، فليس هناك فنادق في رفح وخانيونس, لذلك بدأنا نرتب لهم مكاناً لاستضافتهم في أحد المساكن المتاحة بالمدينة.

بعد البحث والتحري، تبين لنا صعوبة ذلك؛ لأن نادي الخدمات الذي كنا نعول عليه لوجود تسهيلات ضيافة به، ثبت أنه هو الآخر قد تمَّ إشغال استراحته بوفود أخرى، وبالتالي كان عليّ سرعة تجهيز الفيلا الخاصة بأخي كاستراحة مؤقتة لهم, وبعد ذلك نتدبر أمر إقامتهم إذا ما طالت أيام الحرب، وظلت الطريق إلى غزة مقطوعة لفترة أطول.

جمعنا ما استطعنا من تجهيزات في الفيلا لكي يستريحوا من وعثاء سفرهم الطويل, وقمنا بإعداد وجبة الغذاء, ليأخذوا بعدها قسطاً من الراحة, ونبدأ التعارف في المساء، حيث لا تترك أصوات الطائرات وتفجيرات القنابل والصواريخ أحداً يخلد للنوم.

تطوع الكثير من الشباب للقيام بواجب الخدمة للوفد الزائر، وقمنا معاً بتجهيز كل ما نستطيع لترتيب مناخ مريح للإقامة, وعملنا مع الإخوة في وزارة الشئون الاجتماعية على توفير أغطية وفرشات، وكذلك مياه للشرب  ومواد غذائية كدسنا بعضها في الثلاجة, وسهرنا الليل نتحدث معهم على أصوات أزيز الطائرات والانفجارات التي لم تتوقف ليل نهار.

كان الأخ محمد كايا من بين هؤلاء الإخوة المميزين في الوفد, وكان يتحدث اللغتين العربية والإنجليزية, وكان هو من يتولى عملية الترجمة والشرح لنا بشكل مريح, حيث إن اللغة التركية التي كنت تعلمتها قبل ثلاثة عقود قد نسيتها، ولم يسعفني ما تبقى منها لإدارة حوار مفهوم بيننا، حتى ولو قمنا بتوظيف لغة الجسد والإشارة، كان الأخ محمد كايا "أبو متين" هو بحق من يتولى تحقيق التواصل بيننا وبين باقي الفريق.

بعد إجراء الاتصالات مع الجهات الأمنية في غزة، تأكد لنا في اليوم الثاني من وصولهم، والذي سبق نهاية الحرب بأربعة أيام، بأن الطريق إلى غزة ليس آمناً ولن يتمَّ فتحه قريباً؛ لأن الجيش وضع المتاريس والتحصينات العسكرية، وعزز من إغلاق الطريق الرئيس إلى مدينة غزة بالكتل الإسمنتية والقناصة، وتبدو الأمور أنه لن يكون هناك انسحاب قريب, وبالتالي فإن الفريق التركي بأكمله سيمكث في مدينة رفح أو أن رفح ستكون مقر إقامته وانطلاق عملياته للقيام بما هو مطلوب منه؛ أي أن الأطباء سيذهبون إلى المستشفى الأوروبي أو مشفى أبو يوسف النجار، أما الإعلاميون فسوف يتابعون المشهد الدامي للحرب وإرسال تقاريرهم من داخل المدينة, حيث تلقي الطائرات بحممها على بيوت الآمنين في المخيم.

توثقت عرى الصداقة والمحبة بيني وبين الأخ محمد كايا, من خلال التعرف إلى سيرته ومسيرة حياته، حيث إنني وجدت أن بيننا أكثر من مكان سبق لنا الإقامة فيه، ولكل واحد منا ذكرياته هناك، وبالتالي فإن حديثنا حولها سوف تطول ولن تنتهي.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبدأنا نكتب عما جرى فيها وعن بعض مشاهد البطولة وصور التضحيات فيها، جاء في بالي الكتابة عن هؤلاء الأتراك وخاصة الأخ محمد كايا، ولكني شعرت بتردد شديد ولم أفعل، إذ ليس من السهولة أن يكتب المرء عن شخص عرفه منذ زمن قريب، وبطريق الصدفة، ووسط أجواء استثنائية كالحرب.

ومع مرور السنين، توطدت بيننا أواصر الصداقة، وتطورت إلى مصاهرة ونسب، وتعاظمت مع الاحتكاك والمواقف مستويات الثقة والمعرفة، حيث اكتشفت أنني أمام إنسانٍ عظيم نذر حياته وأوقفها لله ولخدمة قضايا أمته، وتنقل بهمة عالية في أرجاء الكون، مرتحلاً من بلد إسلامي إلى آخر، يقدم خدماته وجهده وجهاده ويد العون الإنساني بهدف التخفيف من معاناة ما يمر به أهالي بعض هذه البلدان العربية والإسلامية، فكانت رحلاته المتواصلة من أفغانستان إلى البوسنة والسودان إلى أن حط رحاله في أرض فلسطين، وأصبحت غزة هي قبلته وهجرته الأخيرة.

واضح من طول إقامته في قطاع غزة أنه استطاب المقام والعمل في أرض الرباط وفي أكناف بيت المقدس، لذلك توسعت المشاريع التي يقوم بها مع هيئة الإغاثة التركية (IHH)، من رعاية للأيتام والتي تجاوزت ستة عشر ألفاً، إلى المساهمة في جهود إعادة الإعمار، إلى تدريب الشباب والفتيات على بعض الحرف الفنية مثل (كمبيوتر، خياطة، تطريز، لغة إنجليزية وتركية...الخ)، التي قد تفتح باباً لبعض الشباب المحتاجين لكسب لقمة العيش، والحصول على فرصة عمل تواكب حاجات السوق المحلي.

منذ كان محمد كايا شاباً وهو يعيش الوجع والهمَّ الإسلامي، فشارك في المسيرات التضامنية مع قضايا المسلمين، وخرج في التظاهرات التي انطلقت في بلاده للتنديد بالغزو السوفيتي لأفغانستان، وضد المجازر التي ترتكب في كشمير والبوسنة؛ بل إنه حمل روحه على كفه وانطلق وهو في ريعان الشباب إلى تلك البلاد ليعمل متطوعاً فيها، ويقدم ما يستطيع من جهد وعون، نُصرة لإخوانه في تلك البلاد المنكوبة.

سنواتٌ من الغربة والترحال عاشها هناك في الباكستان وكشمير وأفغانستان، وقام بكل ما كان يستطيع القيام به، وبما تسمح به الأوضاع في تلك البلاد، ولم يغادرها إلا في سياق التحرك لخدمتها في فضاءات أفضل.

لم يترجل محمد كايا عن فرسه؛ بل واصل مسيرته في اتجاه بلدان إسلامية أخرى، وكانت البوسنة هي إحدى محطات حياته المهمة كذلك، حيث واصل فيها مشوار عمله الخيري والإنساني في النصف الأول من التسعينيات. وبالرغم من مشاهد القتل والدمار والمجازر التي تنخلع لها قلوب الرجال هناك، استمر في عمله التطوعي هناك قرابة العام، ولم يغادر تلك البلاد إلا بعد أن شعر بأن هناك من يملأ الفراغ، وأخذ أهلها في تنفس الصعداء، بعد تراجع الصرب بعيداً عن ديارهم، وأصبح الكثير من جنرالات الحرب مطلوبين للعدالة وللمحكمة الجنائية الدولية.

كانت تلك المحطتان مهمتين في حياة الأخ محمد كايا، وفي سجله النضالي، وفي تعميق ارتباطه ببلاد المسلمين. وبالرغم من إتاحة الفرصة له للحصول على جنسية إحدى الدول الأوروبية، إلا أنه ركلها بقدمه، وآثر أن يستمر في ترحاله باتجاه بلاد إسلامية أخرى تحتاج إلى همته وخبراته وتعينه على أمر دينه، فكانت السودان هي المحطة الثالثة في مشوار حياته.

ولأكثر من سبع سنوات قضاها هناك، حيث كان يعمل كمتطوع في مجال العمل الخيري وكممثل لحركة "مللي قروش"، ذات التوجه الإسلامي، قبل أن ينتقل منها للعمل في مصر في المجال التجاري.

ومع إعلان الحرب على قطاع غزة في ديسمبر 2008، كان من أوائل من شدوا الرحال مع جمعية الإغاثة التركية (IHH) في التحرك لتقديم العون لأهلها المحاصرين والذين يتعرضون لعدوان ظالم، فيما أمتهم قد خذلتهم وتركتهم لمقاومتهم ومصيرهم المجهول.

لم يتخل بعد ذلك الأخ محمد كايا عن مهمته الإنسانية في قطاع غزة، فبدأ بتدشين المشاريع مع المؤسسة التي يعمل معها، وانتشرت أعداد الجمعيات التابعة لها أو التي تتلقى دعماً منها في شمال القطاع وجنوبه، وكان من بينها مؤسسة الخالدين والمركز العثماني، كما تزايدت كمية المساعدات التي يتم توزيعها على الأسر المحتاجة أو من هو في دائرة خدماتها، وأصبحت الجمعية من أنشط الجمعيات التي تتحرك في قطاع غزة، حيث تقدم الأضاحي في الأعياد، والطرود الغذائية من حين لآخر، كما تلبي استغاثة الأهالي في فصل الشتاء وعند وقوع الكوارث، وهناك وجبات غذائية يتم تقديمها للأسر الفقيرة بشكل يومي، كما أن هناك مساعدات مالية يتم توزيعها شهرياً لقوائم طويلة من الأطفال الأيتام، وتبلغ وحدها سبعة مليون دولار سنوياً.

وعلينا أن لا ننسى كذلك الأعداد الكبيرة من جرحى الحروب السابقة، والتي قامت مؤسسة الإغاثة (IHH) بتسهيل سفرهم وعلاجهم على نفقتها في تركيا.

وعندما قررت المؤسسة تسيير سفينة "مافي مرمرة" ضمن أسطول الحرية لكسر الحصار عن قطاع غزة في مايو 2010، كان الأخ محمد كايا هو الدينمو الذي عمل ليل نهار من أجل تجهيز الميناء كي يصبح قادراً على استقبال السفينة، فلم يبخل بجهد وما توافر من إمكانيات مالية لتقديم كل ما يلزم للترحيب بهؤلاء المئات من المتضامنين، الذين وفدوا على ظهر السفينة من كل فجٍّ عميق، في مهمة إنسانية نبيلة لتقديم الدعم لأهل قطاع غزة المحاصرين، ورفع معنوياتهم، وفضح دولة الاحتلال أمام العالم. نعم؛ لم تصل السفينة إلى الميناء بسبب القرصنة الإسرائيلية، ولكن رسالتها وصلت إلى كل أرجاء الكون، ولم تذهب محاولاتهم بكل أبعادها الإنسانية سدى، حيث لفتت هذه القضية أنظار العالم إلى ما يتعرض له الفلسطينيون من حصار ظالم وعدوان جائر. كان الأخ أبو متين يتحرك ويتابع ويتواصل مع المتضامنين الأتراك على ظهر السفينة، وكان طوال أيام الاستعداد للرحلة وخلال تهاديها في البحر، متابعاً لحظة بلحظة لكل تحركاتها، ومستمعاً للتهديدات الإسرائيلية بمنع وصولها ومحاولات الزوارق الإسرائيلية التحرش بها، ثم عملية الاقتحام  والمواجهة مع المتضامنين على ظهرها.

كنت قريباً من الرجل يومذاك، ومتابعاً لتفاصيل كل ما يقوم به من جهود إعلامية مميزة وتحركات جبارة للتعبئة والحشد، وحضور فاعل بالميناء على طول الوقت مع عددٍ كبير من نشطاء المجتمع المدني، حيث كان موقعي كرئيس للجنة الحكومية لكسر الحصار واستقبال الوفود، يفرض علينا التشاور والتنسيق معه، ومع آخرين من رؤساء اللجان والجمعيات ذات العلاقة بكسر الحصار، مثل اللجنة الشعبية التي يديرها النائب جمال الخضري.

ختاماً.. إن الأخ محمد كايا (أبو متين)؛ ممثل منظمة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، الذي يعيش بيننا هو وعائلته منذ عام 2008، والذي أوقف حياته من أجل خدمة شعبنا في قطاع غزة، وعمَّق هذا الرباط بالمصاهرة مع أهل فلسطين، إنما هو نموذجٌ لما يحمله التركي المسلم من حبٍ ووفاء وتضحية وانتماء لأرض الإسراء والمعراج.