استمعت شخصياً يوم الأربعاء إلى خطاب بنيامين نتنياهو تعقيبا على القرار الثاني الذي اتخذته اليونسكو، في إطار ما يسميه الرجل استمرار مسرح العبث او هذه المسرحية الهزلية، التي قال انه حتى لهذا النوع من المسرحيات الهزلية ثمة حدود. كانت كلمات الرجل تنم عن شعور عبارة عن مزيج من الغضب والإحباط، ولم يستطع إخفاءه وإن حاول تدارك الأمر بغير نجاح ليرفع من معنويات سامعيه، بأن الأمر مع ذلك ليس على هذا القدر من السوء تماماً. وانه كان يعتقد قبل التصويت الأخير الذي لم يتم بالإجماع، بان إسرائيل ربما تنتظر مرور عشر سنوات قادمة حتى تغير المعادلة القائمة اليوم، والتي تتيح للفلسطينيين أغلبية تلقائية في الأمم المتحدة، ولكن الآن ربما نحتاج الى اقل من هذا العقد من السنين.
لم يقر رئيس وزراء دولة الاحتلال بان إسرائيل تمر في أسوأ حالاتها من العزلة الدولية على المسرح الواقعي العالمي، وأن رجلا امتهن الدعاية الإعلامية في مستهل حياته السياسية، حين عمل شاباً ممثلا لإسرائيل في الأمم المتحدة، يدرك انه محظور عليه الإقرار بهزيمته أمام الفلسطينيين في هذه المعركة الدبلوماسية الحاسمة حول تقرير مصير القدس، على الملعب الذي استطاع الفلسطينيون والأردنيون والعرب جره اليه، كما لا يستطيع كسياسي لعوب بنفس القدر مصارحة شعبه بهذه الحقيقة، من انه فشل في كل ما فعله في القدس، وهو الذي تفاخر قبل اشهر من الآن بأنه اكثر رئيس وزراء في إسرائيل عمل للقدس أي من اجل تهويدها وهذا هو إنجازه.
اعلن الرجل في هذا الخطاب سحب سفيره من اليونسكو، وقبل ان يقول الفلسطينيون أي كلمة تعقيبا على هذا الانتصار الذي احرزوه وعلى خطاب الرجل، جاء الرد هذه المرة من الأردن على لسان الناطق باسم الحكومة الأردنية، بأنه يجب على العالم تذكير هذا الرجل ودولته كل يوم بأنهم دولة احتلال، وربما نشهد في قادم الأيام واذا واصلت إسرائيل البقاء على نهجها وتفكيرها، قيامها بسحب كل سفرائها من دول العالم.
اما الرد الثاني الأصعب والأشد والأقسى، فقد جاء هذه المرة من إيهود باراك الذي ذكر نتنياهو بتبجحاته قبل عدة شهور حول إنجازاته الدبلوماسية في القارة الإفريقية، واختراقاته الدونكيشوتية للعالم العربي وفتوحاته للصين وروسيا. والتي يتضح الآن أن جميعها هراء وان ما يحدث هو تعبير عن الفشل.
والواقع ان ما لا يتقصده نتنياهو في هذا الخطاب هو بالضبط ما أبانه، مما حاول حتى الآن عدم الجهر به وإخفاءه وراء اللسان، فهو يُعد عقداً آخر لاستمرار الاحتلال في هذه اللعبة العبثية لكسر او تغيير قاعدة التصويت التلقائية، التي يتمتع الفلسطينيون بها في الأمم المتحدة ومنظماتها، ولا يفكر الرجل غداً بإنهاء الاحتلال أي هذه المسرحية العبثية، التي تمنح الفلسطينيين هذه الأغلبية التلقائية. وهذا هو فحوى كل الطابق او القصة، انه ما زال يعتقد في قرارة أعماقه بإدارة هذا الصراع العبثي وإدامة إدارة هذا الصراع، وليس اتخاذ القرار التاريخي بإنهائه.
ولذا فان الحسم الأممي بدءاً من القدس انما جاء بمثابة الضربة القاضية لهذا الحلم الشيطاني او الفكرة السوداء، ويرى علماء التحليل النفسي ولا يجب الاستغناء عن خبرات وأدوات هذا التحليل، في سياق التحليل العام لمرض سيكولوجيا الاحتلال. ان الإنسان حينما يكذب في المرة الأولى يشعر بنوع من الوخز الذي يصدر عن جزء محدد من الدماغ، تعبيرا عن انزعاج هذا الجزء، ما يعتبر مخالفة ارتكبت ضد طبيعة الفطرة الإنسانية بممارسة الكذب، لكن في المرات التالية ومع مواصلة عادة الكذب يخف مفعول هذا الوخز حتى يتلاشى، حين يصبح الكذب نوعاً من الإدمان. وهنا وعند هذا المنحنى المتطاول في الزمن من ممارسة الكذب، فان الرواية الكاذبة وقد تطاولت أحابيل الكذب وكذا احتلال شعب واستعباده باسم هذه الأكاذيب، لا يحدث فقط فقدان تصديقها او بطلان حقيقتها، ولكن عدم الاهتمام او المبالاة بها من ممثلي العالم.
وهنا اذ يحاول نتنياهو المصدوم بعدم اكثراث احد لروايته، تصويرَ المسألة على أنها ضد اليهود او اليهودية، بكل ما يحمله هذا التحريف من مدلولات وإيحاءات، وكأن العالم والجميع ضد اليهود او "يا وحدنا". فإن أحداً لا يصدق هذا الكلام لأن الواقع والحقيقة هي ان كل العالم هو بالأصل ضد الاحتلال وليس ضد اليهود انفسهم. اليهود الذين لم يخلقوا كما قال بيريس ليحتلوا ويسيطروا ويستعبدوا شعباً آخر.
وهكذا لعلنا الآن وفي غضون هذه الأمتار العشرة التي تفصلنا على انعقاد المؤتمر الدولي للسلام كما انهاء الاحتلال، إن تطاول الزمن على هذا الاحتلال لم يكن يصب لمصلحة إسرائيل الاحتلالية، وان جميع الأحداث الجارية أمامنا انما تدل على ان كل مناورات إسرائيل لإدامة هذا الاحتلال لم تؤد الا الى حرق أوراق إسرائيل، وازدياد عزلتها وتحولها الى دولة مارقة او منبوذة.
لنذهب إذن من هذه النقطة الفاصلة وربما جاز القول المنعطف، وقد فقدت إسرائيل الرواية، ولكن قد رُسمت او حُددت او قررت طبيعة الحل النهائي لقضية القدس، في تجاوز واضح او تصحيح للمقترح الذي عرضه بل كلينتون على عرفات في مفاوضات كامب ديفيد، التي انتهت الى مأساة باندلاع انتفاضة الأقصى.
وشبه أيوب قرة وهو نائب وزير وإسرائيلي في مواقفه أحياناً أكثر من الإسرائيليين انفسهم، القرارين الصادرين عن منظمة اليونسكو بأنهما أقوى من الزلزالين اللذين ضربا إيطاليا، حيث كان هناك قبل أيام. وإذا كنا نقف الآن قبل عشرة أيام تقريباً من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية، مع توقع فوز محقق للسيدة هيلاري كلينتون، وهو موعد تحرر باراك أوباما. فإن الأيام التي تنتظر إسرائيل سوف تكون هي الأصعب على الحلبة الدبلوماسية الدولية، وان كانت ملامحها هي التي ظهرت في القرارات غير المسبوقة التي اتخذتها اليونسكو ولاسيما في المقدمة إزاء الاستيطان.
فهل على هذه الخلفية إزاء نذر العاصفة التي بدأت تبكر في القدوم، رأينا ما يشبه انحناءة ناعمة في مواقف أخيرة صدرت عن إسرائيل، بعد أن لم يعد بمقدور الساحر صد العاصفة، ومنع انعقاد المؤتمر الدولي، وتلويح أوباما بسيف ديمقليس وإنهاء المسرحية العبثية، وهذا التحول او المناورة الجديدة ربما نقرأ مؤشراتها في محاولة إظهار قدر من التلطيف على خشونة الاحتلال نفسه، من قبيل السماح للفلسطينيين بالبناء في منطقة "ج"، بإيعاز من افيغدور ليبرمان الذي يحاول كما يبدو تطوير وبلورة مقاربته الخاصة تجاه الفلسطينيين. وربما مستبقا بذكاء واضح او قراءة صحيحة لسفينة في طريقها إلى الغرق، مقدماً برنامجه السياسي هذه المرة في التنافس المقبل على رئاسة الوزراء. وهي مقاربة لنا عودة لمناقشتها.


