التقاه صدفة فقرر أن يستغله، فيما اعتقد الآخر أنه قد جاء لينقذه من الشوارع، حيث أخذه وآواه في بيته وأخبره بأنهما سيكونان صديقين، ولكن الهدف الأساسي لعطفه على العبيط أو المتخلف عقليا، والذي لم يكن كذلك بل كان ذات يوم بكامل قواه العقلية قبل أن يضربه مجرمون مأجورون على رأسه ويلقونه فاقدا عقله في الأزقة. لا يذكر شيئا عن ماضيه سوى صورة باهتة لطفلته الوحيدة، وها هو يصبح في بيت هذا المدعي والذي رأى فيه صيدا ثمينا وهدفا منشودا لكي يحصل على إحدى قرنيتي عينيه ويزرعها بدلا عن قرنيته التي فقدها في حادثة ما.
العبيط عاش لسنوات في حارتنا وأنا صغيرة، انشقت الأرض عنه ولا احد يعرف من اين أتى، ولم يكن يعرف شيئا سوى أن اسمه "عبده".
وتعددت الأقاويل حول أصله وفصله، وان ذهب خيال الصبية إلى أنه ابن أحد الأثرياء البدو الذين يقطنون على أطراف المدينة، وقد ألقى به هذا الثري في الشارع بعد أن تيقن أنه سيجلب له العار بسبب خباله، وظل موجودا في الحارة ينام بجوار الجدران، أو يلجأ إلى حظيرة ماشية لسنوات طويلة، وكنت أتوقف طويلا أمامه وأنظر إليه حتى كبرت وكبر ورأيت شعيرات بيضاء قد غزت رأسه، وكنت أشعر أحياناً نحوه بالشفقة واحيانا أخرى كنت أخاف منه حين يهمهم بكلمات غير مفهومة أو حين يقذف الصبية الذين يضايقونه بحجارة صائبة الهدف يخفيها بين ثيابه الممزقة.
العبيط هو ابنها الذي تطوف به على البيت لتتسول بعض المال، توقفه أمام باب كل بيت ولا تسمح له بالدخول، وهو ابنها الوحيد الذي لم يكن كذلك لولا حمى أصابته فأودت بعقله وشوهت ملامحه، فخلا وجهه من التعبير وفغر فاهه ببله واضح، وكانت امه تطيل الغياب في داخل البيت الذي تقصده أو تدعوها صاحبة البيت لتناول طعام معها فيغلبه النعاس وينام واقفا في منظر يدعو إلى الشفقة، وحين تعود أمه إليه تسحبه من يده ويسير خلفها متعثرا، وعلمت منها أنه قد حاول الفرار أكثر من مرة بسبب قسوتها عليه، ولكنها كانت تعثر عليه لأنه مصباح علاء الدين بالنسبة لها، فكل بيت تدخله لتتسول من أهله اصبحوا يعرفون انه ينتظرها بمنظره المخيف في الخارج، وأنها ستجده قد غفا إلى الجدار فيسرعون ببذل العطاء خشية أن يعود أطفالهم من المدارس فيرتعبون من شكله، ويخافون من وقفته.
يوسف لم يكن عبيطا، ولكنه ضحية ظروف عائلية سيئة وقع ميتا في احد شوارع رام الله، ومر من أمامه الناس بلا مبالاة معتقدين انه يدعي التعثر والوقوع لكي يحسنوا إليه، ولكنه لم ينهض، مات يوسف في وسط الشارع واظهر المارة وسكان رام الله الإنسانية المزيفة بعد موته، وهم الذين كانوا يتحاشونه ويتجاهلونه، وبعد أن مات أصبح الجميع فجأة يعرفونه ويكتبون عن مواقف حدثت معهم ومعه، وبكوا أو تباكوا، وهكذا ارتاحت ضمائر الناس الذين تركوه في الشارع طويلا وعادوا إلى أعمالهم ولم يفكروا أن أمثاله كثر يملؤون الشوارع ويقعون ضحايا الظروف الأسرية السيئة والبطالة وانتشار المخدرات وغيرها من الآفات التي تجعل يوسف واحدا من قائمة ليس لها نهاية.
سنوات طويلة مرت على مغادرتي الحي الذي نقطنه والذي كنت اطلق عليه اسم "الحارة" تحببا لأهله ولما تربطني بسكانه من مشاعر، رغم أنهم ليسوا فقراء بل معظمهم من أصحاب الأراضي والأملاك، وحين عدت ذات يوم بعد أن تزوجت وأصبحت أما تحدثت أُمي بأسى عن "عبدو" وكيف عثروا عليه ميتا في الشارع وقد تجمد من البرد، وكيف فتشوا ملابسه فوجدوا شهادة ميلاد تدل على انه مصري الجنسية، ولكن احدا لم يعرف كيف قطع الحدود بين مصر وغزة، ولكن المفاجأة أن اسمه لم يكن عبدو أبدا، بل كان اسمه تامر وامه اسمها سهير، وأن عبدو ربما كان اسم التدليل لوالده الذي يحمل اسم "عبد المنعم" وربما كان ينحدر من أسرة ثرية، ولكن أحداً ما اختطفه او تعرض لحادثة ذهبت بعقله وذاكرته، ومن بعد وفاته تحدث أهل "الحارة" كثيرا عن تامر ابن سهير وكيف كانوا يحبونه ويفتقدونه ويرأفون به، ظلوا كذلك بعد أن شيعوه بجنازة مهيبة لا تليق إلا بأحد الأعيان.


