لعل الدلالة الأهم في القرار الأممي الذي صادقت عليه اليونيسكو مرتين؛ لأجل تأكيد قرارها، إلى جانب نصه ومضمونه، هي في الواقع الجديد الذي يبدو عليه الموقف العالمي من دولة إسرائيل. لقد جرت وتجري الآن مياه جديدة كما يقال من تحت الجسر، ما يفصل بين عصرين أو زمنين، بل وبالمعنى المجازي أيضاً بين دولتين. بين صورة إسرائيل في العقود الأولى إبان نشأتها حين كانت الطفل الأعجوبة المدلل، وإسرائيل الأخرى اليوم التي ينفضّ العالم من حولها وتبدو دولة احتلال قبيحة.
هل ندرك الآن أن ما اعتبر فخر هذه الدولة بأسطورة قوتها الإعلامية، إنما هو محض كذبة كبيرة وأن ما حدث هو أن هذه السطوة الإعلامية لم تكن سوى لعبة الأمم نفسها، التي كانت تسمح واليوم تمنع أو تعاقب؟ وأنه على ضوء هذه الحقيقة، هذا الانقلاب اليوم، يجب أن نفهم أن ما حدث في اليونيسكو في القرار الذي يقف وراء القرار هو حجب الغطاء الدولي عن إسرائيل. وحين نقول الدولي فنحن نقصد الغرب تحديداً، الغرب الذي طالما حمى وغطى بإعلامه ودبلوماسييه إسرائيل. وكان هو الفاعل والقادر بل كُلّي القدرة إذا جاز لنا هذا الوصف.
وبهذا المعنى كان تمرير القرار رسالة في هذه الطريق التي نحاول تتبع علاماتها وإشاراتها إلى المؤتمر الدولي للسلام، إلى إسرائيل أقرب إلى رفع البطاقة الحمراء. وفي هذا المعنى أيضا فإن ما جرى ينطوي على دلالة إستراتيجية كإشارة إلى المستقبل، إلى ما يمكن أن يتبع هذه الإشارة أو الموقف، وهو ما يرقى إلى الإنذار الكبير.
وقال بنيامين نتنياهو مصدوماً من هول الحقيقة كيف تجرؤوا على ذلك، ألا يعلمون أن علاقتنا، يقصد علاقة اليهود وإسرائيل بما يسميه جبل الهيكل والحرم القدسي، كعلاقة مصر بالأهرامات والصين بسور الصين العظيم؟ لكن أحداً لم يطرح على الرجل السؤال الذي يستدعيه السؤال، لأنهم ربما في الواقع، وهذا ما حدث، لم يعيروا الأهمية لتعقيب الرجل، وعاد المصوتون على القرار للتصديق عليه مجدداً.
لكن هذا السؤال سيبقى هو السؤال، إذ أين ذهبت مصر والصين في غضون هذه الآلاف السبعة من حول وادي النيل منذ تشييد الفراعنة الأهرامات؟ وكذا الصين منذ أربعة آلاف عام منذ بناء الصينيون سورهم العظيم؟ والذي قال ماوتسي تونغ إبان ثورة الصين مخاطباً الصينيين: إنكم لن تصبحوا عظماء إلا إذا وصلتم إلى سور الصين العظيم مشياً على الأقدام.
فأين ذهب اليهود والإسرائيليون على مدى الثلاثة آلاف سنة من التاريخ الافتراضي، أو الألفي عام من انهيار الهيكل الأول والثاني طوال هذا الوقت؟ ولم يتركوا وراءهم أي أثر مادي يدل على دولتي يهوذا وإسرائيل المنقسمتين على نفسيهما؟ وأجاب باحث وأستاذ إسرائيلي كبير في علم الآثار عن هذا السؤال في مقال نشره قبل عشرين عاماً في صحافة إسرائيل: إن ذلك لم يكن. أي الحديث عن دولة داود وسليمان، إلا من قبيل القصص المبالغ فيها. بينما تذكر التوراة أن الفلسطينيين بالاسم هم من كانوا يعيشون على هذه الأرض قبل حروب داود، وأن داود قد طلب اللجوء السياسي أو الاحتماء بالفلسطينيين هرباً من ملاحقة الملك شاؤول له.
ومنذ ألف وأربعمائة عام حين بنى الأمويون وكانوا بنائين عظاماً قبة الصخرة والحرم القدسي وسورهما العظيم، كان الفلسطينيون أقدم شعوب هذه الأرض في هذا المكان، في حين جاء الإسرائيليون الأواخر على ظهر دبابات الانتداب البريطاني. أو ليست هذه هي الحقيقة فيما حدث في الماضي واليوم وفي أصل العلاقة الزمانية بالمكان؟
كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين... قال شاعرنا محمود درويش. فما حدث أن كانت مصر غير مصر ولا الصين غير الصين، حتى تكون فلسطين ليست هي فلسطين، حتى في ظل الانتداب البريطاني. فكيف يمكن لاحتلال عمره خمسون عاماً أن يلغي حقائق عمرها خمسون قرناً؟
والواقع هو أن هذا القرار لا ينكر العلاقة الروحية بين جميع الأديان والقدس، لكن ما ينكره القرار هو هذا التسييس الفاضح لهذه العلاقة، حين يصار إلى تبرير وإدامة احتلال شعب آخر وانتهاك حرماته ورموزه الدينية باسم دين آخر، الحروب الصليبية في المرة الأولى وتسييس اليهودية الصهيونية في المرة الثانية. هذا التسييس أو الأدلجة التي بدأت كحركة علمانية نشأت في رحم البرجوازية العلمانية القومية التي اجتاحت أوروبا الرأسمالية، وتطورت فيما بعد إلى موجة عالمية استعمارية لينتهي المطاف بها، أي العلمانية الصهيونية وإسرائيل نفسها إلى مجرد دولة دينية مغرقة بالتطرف الأيديولوجي الديني.
وبهذا المعنى فقد كان هذا القرار الذي اتخذته اليونيسكو سياسياً في دلالته، وإن كان في مضمونه يختص بمسألة تتعلق بحق أو شأن من شؤون التراث الديني والعبادات. وإن هذا البعد السياسي في مغزى القرار هو ما أربك حسابات العصبة الأيديولوجية الحاكمة في إسرائيل، فيما بدأ إحكام الخناق العالمي على الاحتلال.
والواقع هو أنه لا أحد ينكر الوجود اليهودي التاريخي، لا في فلسطين ولا حتى في عموم هذه المنطقة، إذ كان اليهود كما المسيحيون جزءاً من نسيج هذه المنطقة دولها وقبائلها طوال الوقت، وقد عاشوا في كنف هويتها الثقافية الإسلامية العروبية على مدى القرون الخمسة عشر الماضية، كجزء من شعوبها وأبنائها دون تمييز أو تفريق. لكنهم كانوا يهوداً مصريين وعراقيين وسوريين ولبنانيين ويمنيين وفلسطينيين بالدرجة الأولى، حتى أن صلاح خلف أبو إياد رحمه الله وجه في وقت مبكر من نشوء الثورة الفلسطينية المعاصرة التي أطلقتها حركة «فتح»، وكان أحد قادتها العظام، أول نقد للثورة الفلسطينية السالفة بقيادة المفتي الحاج أمين الحسيني، بأنها لم تسع من البداية لاستيعاب اليهود الفلسطينيين في صفوفها، باعتبارهم وطنيين فلسطينيين أولاً في الصراع ضد الاستعمار البريطاني، لقطع الطريق على الصهيونية والاستعمار البريطاني.
هل كانت هذه هي إذاً فحوى الدعوة العاقلة التي يعيد تجديدها عاموس عوز الأديب الإسرائيلي الأشهر، والتي أشار إليها منذ أربعين عاماً صلاح خلف. ولكن هذه المرة على لسان عاموس عوز بطريقة إصلاح ما أفسده الدهر، حين قال في خطابه أمام قبر شمعون بيريس: إننا والفلسطينيين نشبه في علاقتنا زواجاً فاشلاً وعلينا مواصلة العيش في نفس البيت، فليس أمامنا من حل سوى تقسيم هذا البيت نفسه بيننا ليختار كل منا العيش لوحده.
من خارج الطبقة السياسية الحاكمة إذاً والتي تواجه من الخارج ضغطاً لا سابق له من قبل الغرب لأجل إعادتها إلى رشدها، ردها إلى حجمها وحدودها. ربما نكون شهوداً في هذه الأيام على بدء هذه الحركة الضاغطة ولكن المكملة أو الموازية من الداخل، لتشديد الطوق على الاحتلال. في هاتين الإشارتين: المسيرة النسوية الإسرائيلية تحت شعار نساء يصنعن السلام، من رأس الناقورة إلى بيت نتنياهو، والتي تحولت إلى تظاهرة كبرى من أجل السلام وإنهاء الاحتلال. أما الإشارة الثانية فهي الشهادة المهمة والأولى من نوعها ضد الاستيطان التي قدمتها منظمتي «بيتسيلم» وحركة «السلام الآن»، أمام مجلس الأمن الدولي في الإحاطة التي عقدها حول هذا الموضوع، وامتدحتها الإدارة الأميركية رداً على نتنياهو وجماعته، الذين رأوا في مبادرة هاتين الحركتين كعمل من أعمال الخيانة.
في فرنسا وأميركا زمن احتلال الجزائر وحرب فيتنام، هل يمكن النظر الآن إلى دور المثقفين الفرنسيين في الدفاع عن استقلال الجزائر، وحتى زياراتهم إلى احمد بن بيلا وقادة جبهة التحرير الجزائرية في سجون فرنسا، ومساعدتهم عملاً من أعمال الخيانة الوطنية؟ وهو ما فعله الطلاب الأميركيون وأساتذتهم في الجامعات الأميركية والساحات العامة بأسلوب آخر هو التظاهر بالمطالبة بوقف الحرب الأميركية على فيتنام. ولعله هو الرهان اليوم على تحرك مماثل في إسرائيل. بينما يواصل بنيامين نتنياهو مهاجمة باراك أوباما في مجالسه الخاصة، باعتباره، كما نقل عنه، الرجل الأخطر على الوجود الاستيطاني في إسرائيل.


