الضجة الواسعة التي اندلعت منذ بداية هذا الأسبوع بشأن ما أصبح يعرف بندوة السخنة التي انعقدت حسب جدوال أعمال معلن بين الأحد والثلاثاء تلك الضجة فضحت بعضا من تحديات الانقسام والتشرذم الذي يحكم الخناق على الوضع الفلسطيني وتتعمق آثاره لتشمل أخلاقيات وآداب وقواعد العمل السياسي وحتى آداب الحوار ، لا يمكن للسياسي أو المثقف أو حتى المواطن قليل التعليم أن ينجح حين يبني أحكامه وأن يقررها مسبقا قبل أن يقف علي النتائج والمخرجات فإن حصل ذلك فإنه دليل على حالة من الانحطاط السياسي والأخلاقي والثقافي والقيمي.
التشكيك يعكس الارتباك وعدم الثقة بالنفس قبل أن يكون عدم الثقة بالآخرين إذ أن إطلاق التهم الجزافية على الآخرين إنما يفضح سعي من يفعلون ذلك نحو اتخاذ واقعة الندوة فرصة للتعبير عن تطلعاتهم ومصالحم وأطماعهم الذاتية حتى لو كان ذلك على حساب القيم الوطنية. من تابع التصريحات والمؤتمرات الصحفية والتغريدات على وسائل الاتصال الجماهيري يظن أن كل هذا الاهتمام يتصل بمؤتمر دولي مصيري كمؤتمر مالطا مثلا أو مؤتمر مدريد أو بمؤامرة من نوع سايكس بيكو أو ربما بالمؤتمر الدولي الذي تحضر له فرنسا. تنعقد عشرات الندوات والمؤتمرات وورشات العمل واللقاءات التي تدعو إليها وتنظمها أطراف فلسطينية وعربية ودولية وتكاد تكون مثل هذه الدعوات يومية فلا نجد من يمتنع عن الحضور إلا على نحو محدود أما إذا كانت الجهة الداعية الولايات المتحة فإن أحدا لا يتخلف فلماذا هذه المرة؟؟
هذه المرة تنعقد الندوة بدعوة من مصر الكبيرة وتحديدا من المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط وعنوانها " العلاقة بين مصر وفلسطين" يطمح المشاركون فيها أن تشكل باكورة ندوات ومؤتمرات تقوم مصر بالدعوة إليها ورعايتها لتعزيز وتعميق الحوار والتعاون بين أطراف القضية الواحدة ،ليس لأحد أن يسأل عن أسباب البدء بتوجيه الدعوة لشخصيات من قطاع غزة ولكن التساؤل يذهب نحو الأسباب التي تقف وراء مقاطعة البعض انطلاقا من شكوك ومخاوف لا محل لها.
كان علي المشككين أن يثقوا بوطنية المواطن الفلسطيني فكيف حين يتعلق الأمر بشخصيات وطنية معروفة بالتزامها وتمسكها بثوابت القضية بما في ذلك ثباتها على الموقف من المؤسسات الوطنية والمشروع الوطني بكل مفرداته وبالشرعيات والقانون والنظام السياسي الذي يحتاج إلى الإصلاح.
إن موقف التسويق والبيع والشراء بالمواقف والذمم والسعي وراء الولاءات العمياء وتسول الرضا لا يمكن أن يكون منهج معمم على كل الناس ولو كان من تعرضوا للإتهامات من هذا النوع لكانت أوضاعهم مختلفة تماما.
لست في معرض الدفاع عن النفس وأنا أقف على أعلى منصات الوطنية الفلسطينية والنزاهة والموضوعية وقول كلمة الحق حتى أمام أعتى الخصوم وأكثرهم ميلا نحو قمع الآراء المخالفة ولكنني أشفق على هؤلاء الباحثين عن مصالحهم الخاصة .
إذا لم يكن الشك في الشخصيات التي حضرت الندوة من الفلسطينيين وهو أمر سيء فإن الشك ذهب الاعتقاد بأن ما أسموه بمؤتمر السخنة يشكل مؤامرة على الشرعية وعلى حركة فتح فهنا عليكم أيها المشككون أن تتذكروا وأن تتبصروا الحقائق التي لا يمكن تجاهلها إلا ممن فقد البصر والبصيرة.
مصر الكبيرة لا تحتاج إلى مثل هذه الدعوة والندوة لكي تقوم بما ينبغي عليها القيام به وهي لا يمكن أن تلجأ ولا حاجة لها بالتآمر فمصر هي الدولة العربية الكبيرة التي لم تستثمر في الحركة الوطنية الفلسطينية وكان بإمكانها أن تشكل تنظيما فلسطينيا كبيرا فضلا عن أنها لم تلطح أياديها بالدم الفلسطيني.
آثرت مصر أن تدعم كل الوقت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح على وجه الخصوص وأن تمتنع عن التدخل في الشئون الداخلية الفلسطينية وقد تأكد ذلك مرة أخرى من خلال أوراق العمل والمداخلات التي قدمها الباحثون المصريون.
لقد شكلت الندوة في بعض مخرجاتها درسا عميقا في أسس البحث العلمي الملتزم وربما الأهم في آداب الحوار وحرية التعبير الأمر الذي انعكس على نحو واضح لا يقبل التأويل من خلال التوصيات والبيان الختامي.
ولكن على المرتجفين من دور مصر أن يفهموا ما فهمناه من أن مصر تتجه نحو تنشيط دورها على المستوى الفلسطيني قضية وقضايا ولكن وفق قواعد وثوابت العمل السياسي المصري التي تلتزم بحقوق الفلسطينيين والرغبة الحقيقية في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة واحترام الشرعية والحرص على أن تكون القناة الأساسية للفعل ، فهمنا أن هذا التوجه ينطلق ليس فقط من الإلتزام العميق والتاريخي تجاه حقوق الشعب الفلسطيني وإنما أيضا من رؤية مصر لمصالحها ولأمنها القومي الإستراتيجي.
كنت أعتقد أن من انساقوا بهوس وراء التشكيك والاتهامات الصعبة سيبادروا إلى الإعتذار بعد أن تبينوا الحقائق لكن هذه الفضيلة مع الأسف غائبة عن قيم وثقافة الفصائل والسلطات وأصحاب المصالح فكيف حين يتعلق الأمر بأشخاص وشخصيات لا ترى إلا بعين الفصيل والقائد الملهم والركض وراء المصلحة الخاضة.
كان على المتطيرين بنظرية المؤامرة وادعاء الحرص على الشرعية والوطنية الفلسطينية أن يعطوا جزءا من خزين غضبهم على السلوك الذي أقدم عليه الأمن الداخلي على معبر رفح الذي لم يكتف بتعويق سفر المدعوين للندوة وأنما استدعى للتحقيق الأغلبية الساحقة منهم وبعضهم لثلاث أو أربع مرات بدون أي مبرر ولكن مرة أخرى هو الخوف على المصالح.
وأخيرا ماذا ينتظر المشككون حتى الهوس ومرضى المصالح الخاصة من النخبة الوطنية التي تعرضت لأتهامات ظالمة بعد أن دفعوا ظهورهم إلى الجدار ؟


