أرسلت لي جارتي، التي تجمعني بها عِشرة عمر، طبقاً من البصارة، وهي التي تصرّ أن ترسل لصويحباتها في الحيّ كل ما تجود به ذات اليد، وكنت أتقبّل ما ترسله لي بكل حب وفرح، فأكلاتها تذكّرني بأكلات أمي وجدتي، رغم أن البصارة ليست بالصنف الذي يحبه أولادي من أبناء هذا الجيل الجديد، والذين يحبون الأكلات الجاهزة والسريعة والتي يزيّنها الكاتشاب والمايونيز غالباً، ولأن من عاداتنا التي تربّينا عليها أن نعيد الطبق للجارة ممتلئاً بصنف آخر من البيت، وطلبت من حفيدة جارتي أن تجلس على الأريكة بجوار الباب.
حدث ذلك في الوقت الذي قارب فيه التيار الكهربائي على الانقطاع، بعد عودته لساعات قلائل إلى بيتي، وبالتالي إلى المنطقة حسب جدول معين، وفقدت إحساسي بكل ما حولي سوى أن علي استغلال الدقائق القليلة في الطبخ والتنظيف وتشغيل المولّد لرفع الماء إلى الخزانات فوق سطح البناية، أي أن معنى الدقائق القليلة الباقية تشبه الأيام القليلة التي يمهلها الأطباء للمريض بمرضٍ مستعصٍ مثلما أتحفتنا الأفلام العربية، والتي يخرج فيها الطبيب الأصلع المكتنز ليعلن أن أيام المريض باتت معدودة، ويسارع هذا المريض لإنصاف مظلوم أكل حقّه، والقيام بأعمال خير علّها تشفع له أمام سيئاته، ولكنّ أحداً لا يمكنه أن يتنبأ بالغيب، ويحدد موعد الوفاة بدقة، وهكذا يحدث معي فعلاً، فأنا أُسرع لإنجاز كل أمر يتعلّق بالكهرباء، ولا أعرف هل سيحالفني الحظ فتنقطع بعد أن أنتهي من أعمالي، وخاصة شحن الهواتف النقالة الخاصة بي وبأولادي، وكذلك الانتهاء من غسيل الملابس، أم أن الحظ سيخذلني وتنقطع الكهرباء ويكون علي انتظار عودتها من جديد.
لم يكن قد تبقّى من الوقت سوى عشرين دقيقة، فنسيت الطفلة الصغيرة التي جاءت بالطبق وصرت أركض من مكان إلى مكان، ألتقط حبّات العنب التي قاربت على الذبول، فأفرطها بين أصابعي بسرعة، ويقع معظمها على الأرض، ثم أسكب ما تبقّى منها في إبريق الخلاط الكهربائي، وأضيف لها القليل من الماء، وأدير الخلاط لكي لا تتلف هذه الحبات إن لم أعصرها.
كنت أشعر أنني في صراع مع الوقت، وبأن أعصابي مشدودة، وعقلي قد أصبح لا يعمل إلا في اتجاه واحد، حين رنّ هاتفي المحمول ووجدت جارتي بصوت ملهوف وملتاع تسأل عن حفيدتها، وهي تتوقع أن تكون قد عادت قبل هذا الوقت بكثير، فالمسافة التي تفصل بين بيتينا لا تتجاوز الأمتار العشرة، وهنا تذكرت الطفلة التي جاءتني بالطبق وانشغلت عنها، فركضت نحو الأريكة التي تركتها فوقها، ووجدت أن الطفلة حاولت أن تتشاغل باللهو مع القطة الصغيرة في انتظار أن أعيد لها الطبق ممتلئاً بشيء ما، فغلبها النوم ونسيت أنا أمرها تماماً.
في الواقع أنني نسيت الأيام الخوالي التي كانت تصل فيها الكهرباء إلى بيتي على مدار الساعة قبل حوالي عشر سنوات، وكلما سألني أولادي الذين فتحوا عيونهم على حالنا الآن عن حالنا قبل سنوات عشر، أحاول أن أعتصر ذاكرتي فلا أتذكر، سوى أنني كنت أنهي عملي وأسترخي أمام التلفاز لأتابع أحد الأفلام الكوميدية القديمة التي أعشقها، أو أقرأ كتاباً، أو أتصفّح مجلة، ولم تكن هناك مواعيد ثابتة للزيارات أو حتى الاستحمام، لأننا نفعل هذين الأمرين الآن بحكم تواجد الكهرباء، فمن المستحيل أن تخرج ربة البيت من بيتها تقصد أداء واجب زيارة، وتترك الكهرباء وقد عادت لبيتها، ومن المستحيل أن تجد شخصاً قد طرأ على عقله خاطر مجنون بالاستحمام فجأة، لأنه لن يفعل ذلك إلا حين يتأكد من وصول الكهرباء إلى بيته، وتوفّر الماء الساخن المرتبط بعودة الكهرباء.
وعلى ذلك، يُجمع الأطباء النفسيون في غزة أن سكانها أصبحوا يعانون من عوارض نفسية وعصبية غريبة وغير معروفة، بسبب الضغط النفسي والقهر العصبي، اللذين يتعرضان له، لأن ما يحتملونه لا يطاق، ولأن حقوقهم أصبحت أماني، ولأن الحياة أصبحت لا تسير على وتيرة منتظمة، فأكبر مشكلة تعاني منها غزة، التي أعيش فيها منذ فتحت عيني على الحياة، هي مشكلة الكهرباء، وما نتج عنها من مصائب وحوادث كالحرائق في البيوت، بسبب استخدام الشموع ووسائل التدفئة التقليدية مثل الحطب، وكذلك العودة لاستخدام مواقد الكيروسين «البابور».
إن مشكلة كهرباء غزة التي تجعل مليوني مواطن ينامون في الظلام ويقتلهم البرد شتاءً، والقيظ صيفاً، بحاجة لتبنّي المشاريع التي يتقدم بها طلبة الجامعات النوابغ في غزة المحاصرة، فكم من مشروع كان مجرد رسمٍ على ورق، وكم من اختراع كان مجرد حلم، وكم من نظرية قتل صاحبها لاتهامه بالكفر والزندقة وأُثبتت صحتها بعد سنين طوال، وغزة مليئة بالنوابغ الذين يقدمون مشاريع لتوليد الكهرباء من مصادر بديلة عن الكهرباء المرتبطة بالخط الإسرائيلي المزاجي والخط المصري الشحيح، وشركة الكهرباء المحلية الوحيدة، والتي تتعطل مولداتها أكثر مما تعمل، فقط القليل من الدعم والتشجيع لمشروع ينقذ أهل غزة من شرارة الانفجار التي لن تكون محمودة العواقب على الجوار.


