يتبارى ممثلو الاحتلال في طوره المتأخر أي الفاشية، وبعد كل عملية دفاعية عن النفس يقوم بها ولو حتى على نحو فردي أحد أبناء هذا الشعب الرازح تحت الاحتلال، ولكن على نحو صادم لوعي هذا الاحتلال، كما حدث الأسبوع الماضي في القدس بالمزايدة على انفسهم، بالدعوة الى ابتكار وسيلة اكثر قسوة لقمع إرادة او مقاومة هذا الشعب. وغالبا ما يتحول هذا الصراخ الى نوع من الصراخ المجنون الذي يفتقد أي قدر ولو ضئيل من مسحة عقلانية او اتزان.
ان كل احتلال او نزعة استعمارية يسمح خلالها أي شعب لنفسه او قوة غازية بالسيطرة على شعب آخر واستعباده، تحت أي ذريعة كانت، انما هي ممارسة غير عقلانية وتنطوي على مجافاة للطبيعة الإنسانية وللحقائق البسيطة والبديهية للوجود الإنساني. وان هذه الممارسة غير العقلانية أي التي لا تتفق مع الطبيعة الإنسانية، انما هي التي قادت في الماضي الاستعمار القديم وآخر استعمار متمثل اليوم بالاحتلال الإسرائيلي، الى آخر اطواره أي الفاشية.
تحدث دايان بعيد حرب العام ،1967 عن الاحتلال المخملي أي الناعم او غير المرئي، وهكذا ستلاحظون الى ماذا انتهى هذا الاحتلال المخملي. وادعى نابليون في حملته على مصر انه يحتل مصر من اجل حماية الإسلام، وفي صكوك الانتداب بالجملة التي وزعتها عصبة الأمم لتوزيع حصص الاستعمار الجديد بعيد الحرب العالمية الأولى كان التبرير الأخلاقي نشر التنوير الحضاري وإعادة تأهيل هذه الشعوب لكي تتمكن فيما بعد من الدخول في رحاب الحضارة. فيما سيجري في نفس هذه الحقبة الاستعمارية إعادة اختراع إسرائيل التوراتية.
في غياب هذا العقل يكون من البديهي غياب الأسئلة العنيدة ولكن الوحيدة التي يطرحها الواقع، وهي لماذا وبعد ذلك مما يراه ويعرفه كل الفلسطينيين من عواقب افعالهم، ان تحدوا الاحتلال القوي والارعن والمجنون من احتجاز جثامينهم والتنكيل بعائلاتهم وهدم بيوتهم، وتركهم جرحى ينزفون حتى الموت تحت حر السماء. يذهبون كذكر النحل الى هذه الرحلة رحلة الموت الأخيرة، كالساموراي الياباني على هذا القدر من نزعة صوفية اكثر منها أي شعور آخر في تقديس الشهادة والموت او البطولة.
لا مجال او وقت لطرح الأسئلة في غمرة هذا الصراخ المجنون الا سؤال آخر وحيد: كيف يجرؤون على ذلك؟ ان الجزء الوحيد الذي يتأثر بقدر مما يمكن وصفه بتدخل العقل، انما هو ما يمكن ان نصفه بهوس «التقنية». وحيث يبدو هذا الهوس او الإيمان المطلق بالتقنية الأمنية والعسكرية، مع ما يراه الاحتلال سبب ومصدر قوته وتفوقه على الشعب الآخر. فإن البحث ينصب على التفاصيل العملانية التي أدت الى نجاح العملية، وليس سببها ودوافعها. وهنا قد يبدو المشهد سورياليا او هزليا من احد زواياه، حينما يذهب البحث او الجواب لادانة احد ارقى اشكال التقنية التي يعبدها هؤلاء أي الفيس بوك هنا.
ان الفيس بوك يصبح هو الشيطان او المشكلة او الملهم والمحرض بديلا عن الاحتلال نفسه، وهكذا تمضي هذه السردية الى الجواب او الحل الوحيد، المزيد من الردع والعقاب الجماعي ثم الردع والعقاب الى ما لا نهاية.
لا يعتبر الحديث عن القوانين التي تمثل فلسفة التاريخ موضوعا مفضلا او ذا جاذبية لممثلي الاستعمار او الاحتلال، أو حتى الغزاة عبر مراحل التاريخ. وفقط ربما يأخذون من ميكيافيلي دعوته للغزاة الطامعين في احتلال ممالك يغزونها، اما بتدميرها او استيطانها. ولكنهم ينسون غالبا ان كل مرافعة هذا المُنظّر السياسي الاريب ولكن الوطني تماما، انما كانت بدافع من حبه لبلده إيطاليا وتعليم الايطاليين وامرائهم المتخاصمين كيف يوحدون إيطاليا كما هذه الوطنية على حد سواء.
وهكذا حين يبرز قادة او ساسة من صفوف دولة الاحتلال يملكون او يتوفرون فيما بعد على هذا القدر من الثقافة والتحلي بالرؤية التاريخية الاستشرافية، فإنهم غالبا ما يبدؤون الانسلاخ فكريا عن ماضيهم السابق والجنوح نحو رؤية اكثر واقعية لازمة الاحتلال. بل وربما التشكيك بالمشروع الكولونيالي نفسه، كما في حالة دايان وتحول رابين وشمعون بيريس أوائل عقد التسعينات نحو السلام، وعقد اتفاقية أوسلو مع عرفات ممثل الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير. حين يصرح بيريس ان اليهودية لم تخلق للسيطرة على شعب آخر واستعباده.
لكنهم ربما يأسفون على قبر بيريس ويذرفون الدمع ويعترفون على نحو عاطفي او نادر، بانه ربما كان في جزء من تفكيره على صواب او حق. ولكن ما ان تنتهي هذه الجنازة التي تستدعي هذا الملق السياسي في حضور كل العالم تقريبا، وما ان تهدأ موجة من العمليات الفلسطينية قبل ان يتبعها او تليها موجة أخرى، فإنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم ويتهامسون بينهم بقدرتهم على إخماد انتفاضة الفلسطينيين، وافتخارهم بهذه القدرة او القوة السحرية على ليّ الحقائق، بل ويبلغ هذا الفخر والتباهي حد النظر الى انفسهم كأساتذة او فنانين في ممارسة هذا الاحتلال، متفوقين او متجاوزين كل أصناف او تجارب الاستعمار القديم، او السابق لعهدهم. ويبلغ منهم هذا الغرور ولا نزال بين عمليتين او موجتين، التنظير حتى باستخدام علم الرياضيات في التباهي بهذه القدرات الخارقة.
ان ضحالتهم الفكرية وغرورهم آفة آخيل لا تساعدهم على رؤية الحقيقة الوحيدة في كل قصة ومآسي الاستعمار، كما الاستعمار الإسرائيلي الحديث الراهن اليوم. وهذه الحقيقة انه لا أمريكا في فيتنام ولا فرنسا في الجزائر، او إيطاليا في ليبيا واثيوبيا، وبلجيكا في الكونغو، وكذا بريطانيا في مصر والهند أو خليج عدن، كانوا قد اندحروا او هزموا وبعد ذلك انسحبوا لأن حركات التحرر واشهرها الفيتكونغ وجهة التحرير الجزائرية قد تمكنت من سحق جيوشهم في ميادين القتال، ولكنهم هزموا جميعا لأن الفكرة كان الزمن قد تجاوزها او انتهت صلاحيتها، ولم تعد قابلة للحياة في الوعي والادراك العالمي. وهكذا لأن ديغول رأى ان الاستعمار انتهى زمانه، قرر الانسحاب من الجزائر وليس لان فرنسا هزمت عسكريا في الجزائر.
ولنا ان نسمي ذلك بفعل الجزء الإلهي في هذه الدراما المأساوية، او الجانب غير المرئي في كل صراع او تخطيط للحرب كما كان نابليون الحصيف يخصص له جزءا من الخارطة. أو التخطيط الذي ينتهي دوما إلى غير المتوقع. فهل توقعوا أو انتظروا او عرفوا مسبقا وفي غمرة هذا الافتخار بالقوة ما يحدث لهم اليوم؟.
ان براءة الاختراع الوحيدة التي ستبقى من قصة هذا الاحتلال الذي يوشك علي الاندحار والهزيمة، انما هي التي سوف يسجلها التاريخ للفلسطينيين. اذا كانوا هم من علموا انفسهم بأنفسهم وقد امتلكوا قوة الفكرة، ويعرفون منذ وقت كيف يدحرجونها من الأسفل الي الأعلى صعوداً في الطريق الى الانتصار ودحر الاحتلال.
هنا اذن وقد بلغوا مشارف هذا الانتصار على مستوى الفكرة في الرأي العام في البحار والجامعات وعلى مستوى المقاطعة العالمية، ونبذ الاحتلال ووصمه بالدنس. وأخيرا عبر عزل هذا الاحتلال وفك تحالفاته على المستوى الحكومات والدول والرؤساء. هيا اذاً الى الهيئة الإدارية الأممية لمنظمة التربية والعلوم والثقافة والفنون «اليونسكو» لحسم قضية القدس الحرم القدسي وحتى حائط البراق هكذا بالاسم، المسجد الأقصى وليس جبل الهيكل وحائط البراق في الطريق إلى المؤتمر الدولي. وحيث اقتضى الأمر ان تمتنع باريس وأوروبا عند هذه اللكمة الضربة الحاسمة، عن التصويت. اذا كان هذا الامتناع المناورة يعادل الموافقة وقد مر القرار، ويحدث هذا الانتصار للفكرة فكرة الدولة دولة فلسطين، بينما سيظل هذا الممثل الأخير للاحتلال في حالة من الترقب والتخمين بانتظار الضربة القادمة ولكن القاضية التي يعد لها ويحضرها باراك أوباما وتكون بمثابة الوداع الأخير في تشييع هذا الاحتلال الي القبر. وقد كانت الإشارة قبل أيام في هذا التصريح غير المسبوق من لدن إدارة أوباما ضد الاستيطان.


