من منا لا تربطه علاقة مصلحة بالآخر .. إبتداءً من علاقة الزوج بالزوجة و حرصه على إرضائها و الزوجة بالزوج و بأهله و أقاربه ، و حفظ التوازن في العلاقات الإجتماعية ، وصلة الرحم و غيرها ، صحيح أن كل هذا مبني أساسا على لبنات من ذهب تمثل الأخلاق و التراحم و المودة .. ولكن بين هذه اللبنات لا يمكن إنكار عامل المصلحة ..
المصلحة التي تكبل أحياناً كثيرة الواحد منا من إتخاذ موقف ، فمن منا ليس موظفاً أو عاملاً ( و الإسم التعاقدي الصريح هو: مُستَخدم )، في قطاع حكومي أو خاص ؟ من منا لا يحاول الطبطبة و الإبتعاد في أقواله و تصرفاته عن مناطق التماس مع أصحاب و أرباب وحكام و قيادات ؟ بمنطق لا يجوز أن تأكل من ثريدي و تقطع وريدي .. أو ربما بمنطقنا الدارج ( إطعم الفم تستحي العين) .. و ليس أبلغ من المثل الشعبي ( الشراد ثلثين المراجل ) ، و ( مرة جبان و لا ألف مرة الله يرحمه ) ، و ( ضع راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس) .. و غيرها و غيرها من أمثلة الندامة و الخسران و تبرير الإنبطاح و العبودية .
بل ستجد منا و بيننا من يزيد من تعميق الأمر ، و يحذلقة و يفلسفه ، و يبرر لنفسه موقف الحياد و السلبية، بانه مرتبط بعمل لا يسمح له بإتخاذ موقف ( يذكرك بمسلسل حريم السلطان و الحرملك و الأغاوات ) ..أو بأن الزمن ليس زمانه ، و أنه زمن الرويبضة ، و هو ما شاء الله ، أكبر من هذا ، ولا يريد أن يلوث نفسه بالدخول في " مهاترات" أطرافها ليست من مقامه ولا هي على رشاد .. و إن سالته أين الرشاد إذن ؟ يجيبك بأنه في لزوم البيت و إقفال الباب .. و الصمت أبلغ .. و إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب .. و يتحجج ببعض الأحاديث المروية عن الفتن و زمنها و أهمية الإبتعاد في أوقاتها .. هذا الإبتعاد ، و هذا السلوك هو الذي سبب لأمتنا أكبر و أطول فتنة شهدها التاريخ الإنساني ربما على مدى أكثر من ثلاثة عشر قرناً .. فمنذ الفتنة الكبرى ، و ما جرى بعد مقتل سيدنا ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و بداية عهود الخدع و الإصطفافات ، و إشتعال الحرب الأهلية بين العرب المسلمين ، إلى عصيان معاوية و رفضه مبايعة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ، و تدمير الأخضر و اليابس و قصف الكعبة الشريفة و إحراقها وقتل من المسلمين ما بين العشرين و الأربعين ألفاً وفق التقادير و الروايات التاريخية ، وبالطبع فهذا الرقم يعتبر مهولاً قياساً على تعداد العرب و المسلمين وقتها . من يقرأ هذا التاريخ ، و يستكشف الخسائر السياسية و الدينية و الإجتماعية الناتجة و التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن ، بعد أكثر من ألف و ثلاث مائة سنة ، يعرف ، بل يوقن أن الحيــاد خطيئــة ، و ليس أبلغ في هذا المجال من قول سيدنا في وصف الحياد و المحايدين : «خذلوا الحقَّ، ولم ينصروا الباطل» ، وقوله : الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ،وعلى كل داخل في باطل اثمان : اثم العمل ، واثم الرضى به.
حتى و إن جاء التبرير التاريخي ، كما فعل صحابة أجلاء ، رضوان الله عليهم أجمعين ، بأنهم إعتزلوا و وقفوا على الحيــاد في ما نشب بين سيدنا علي و معاوية ، إلا أنهم و بالمفهوم من سياقات السرد و الرواية التاريخية ، شعروا بعد مدة ، بان موقفهم و حيادهم كان يشوبه الخطأ و أنهم ربما كان من الأفضل أ ينصروا علياً رضي الله عنه و أرضاه .
و امر الله واضح جلي في هذا الباب بنص الآية :
"وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) " سورة الحجرات.
فأصلحوا بينهما ، و هذا هو أول أمر يجب القيام به ، و هو حركة و عمل ، و في حد ذاته إنحياز إيجابي ، فالإصلاح لا يمكن أن يكون إلا بالمكاشفة و رد المخطئ عن خطأه بالحسنى أو بقتاله و الضرب على يديه ليستفيق و يرجع .. وما أشبه اليوم بالبارحة ، سواء في عالمنا العربي أو في وطننا فلسطين .. و رغم كل ما يتفاعل من أمور و يتلاطم من أمواج ، تجد هناك من يتستر خلف شعار الحياد ، و درء الفتنة ، و يمسك بالعصا من المنتصف ، و يوهم نفسه و غيره ، وربما يصدق نفسه بعد حين ، بأنه بهذا إنما يمارس الحيلة و الذكاء و الديبلوماسية ، و الحقيقة أنه إنما يرتكب خطيئة تاريخية ووطنية لا يمكن إلا أن تزيد من نعقيد الأمور و تأجيج الفتنة .. مرة يقول لك أنا لست مع فتح و لا حماس و لا انتمي لأي من فصائل منظمة التحرير ، لست يسارياً و لا يمينياً و لا قومياً و لا وطنياً .. أنا حر مستقل ..و كأن الحر المستقل لا موقف له و لا طعم و لا فائدة ، كائن هلامي ياكل و يشرب و يتمتع و يراقب و ينام ..
ويعلمنا القرآن الكريم، أن الوقوف على الحياد بين الحق والباطل، والإمساك بمنتصف العصا في الصراع بينهم، صفة المنافقين، فيقول تعالى : {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143].
لو أن مثقفينا و روادنا و من يطلقون على أنفسهم فئات النخب ، وقفت يوماً موقفاً واضحاً لا لبس فيه ، في قضية واحدة من القضايا الخلافية في وطننا ، لما وصل بنا الحال إلى ما نحن فيه من إنقسام و تشظي و تجنح و إستزلام و دكاكين ومؤسسات الإسترزاق ، يتلاعنون و يتظاهرون و يدلسون ، و غيرهم من أهل الحياد ، يتفرجون عليهم و يغلقون الأبواب و النوافذ على أنفسهم ، و على شعبهم ..
فإما أن تكونَ أخي بحقٍ *** فأعرفَ منك غثّي من سميني ..
وإلا فاطرحني واتخذني *** عدوّك أتقيكَ وتتقيني ..


