لعل باراك أوباما لم يكن يتجاوز عمره الثلاث سنوات حين نشأت أزمة خليج الخنازير، أزمة الصواريخ السوفييتية في كوبا العام 1962، في ذروة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأميركا. الأزمة التي ظلت الى عقود طويلة منذ ذلك الوقت كموضوع رئيسي يستشهد به في الدراسات والأبحاث الاستراتيجية، ليستخلص منها النتائج والفرضيات الكبرى في فن أو علم إدارة الصراع أو الأزمات.
كان بطلا هذه الدراما التي هددت بحرب نووية لأول مرة بين أعظم قوتين عالميتين كما اليوم أي روسيا وأميركا، هما نيكيتا خروتشوف وجون كينيدي. وتشاء الظروف ان يقتل كينيدي بعد عام من هذه الأزمة في ظروف لا تزال غامضة، وان ينتهي المطاف بخروتشوف الى الإطاحة به داخل روسيا وفرض الإقامة الجبرية عليه. وإذ يصح القول الآن أن جون كينيدي المحبوب أميركيا وفي العالم، كان هو السلف الملهم لباراك أوباما. فإن خروتشوف الشرس والعنيد والذي بلغت في عهده قوة الاتحاد السوفييتي ذروتها، انما بوتين هو الذي يستعيد اليوم ألق تلك الحقبة السوفييتية من الجرأة على بلوغ هذا التحدي لأميركا، لحظة الأزمة او شفير الهاوية مع اختلاف طفيف في الأدوار قياساً بإدارة الأزمة الكوبية، اذ بينما تراجع خروتشوف بسحب الصواريخ دون ان يعلن عن ذلك علنا في الاتفاق الذي ابرم بين الرجلين حفاظا على هيبة روسيا، فإن كينيدي الذي كان ذا مزاج ليّن وتصالحي هو الذي أعطى هذا الغطاء لخرتشوف، وبادر سراً الى فتح قنوات اتصال مع حليفي الاتحاد السوفيتي فيديل كاسترو الكوبي وعبد الناصر.
لم يسبق إذن ان واجهنا مثل هذه الأزمة الحادة بين أميركا وروسيا كما هو حاصل اليوم حول مصير سورية هذه المرة، منذ تلك الأزمة في خليج الخنازير الكوبية قبل خمسين عاماً، كما لو ان لغة التهديد والوعيد المباشرة وحشد السفن الحربية والصواريخ من الجانب الروسي اقله، تستعيد ذات الأجواء العدائية والحربية التي رافقت الأزمة السالفة او الأولى، والتي تميزت في حينها كما اليوم بعدم اليقين إزاء أي خطأ بسيط أو وحيد في الحسابات، ولكن حيث ينطبق المثل على ما يجري اليوم القول المأثور "ما اشبه اليوم بالبارحة".
والحقيقة انه لا وجه للشبه بين الأمس واليوم، وهذه هي الأسباب:
1-كانت الصواريخ الروسية آنذاك والمحملة برؤوس نووية على بعد 90 كليو مترا فقط من مدينة ميامي الأميركية على البحر الكاريبي، بينما الأزمة السورية التي يهدد فيها بوتين الولايات المتحدة بأسلحة تقليدية، ردا على تدخل عسكري أميركي تقليدي هو الآخر، يبعد آلاف الأميال عن أميركا. وهي لا تعدو أي الأزمة السورية بنظر أوباما صراعا محليا وربما قبليا، لا يجدر بأميركا ان تتورط او تخاطر بسببه بحرب مع روسيا قد تتحول الى حرب عالمية.
2- في أزمة الصواريخ الكوبية كنا لا نزال في ذروة الحرب الباردة، وفي اطار من الصبغة الأيديولوجية الحادة بين معسكرين يقسمان العالم ويستقطبانه على نحو حاد بين معسكرين اقتصاديين وسياسيين. لا إمكانية للتسوية او التعايش بينهما: النظام الرأسمالي بزعامة أميركا والاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وكان هذا يعني على مستوى إدارة الصراع او هيمنة مفهوم المعادلة الصفرية على أي أزمة او صراع بينهما.
اما اليوم فإن الأزمة السورية ليست محاطة بكل هذا الإكسسوار القديم من ارث الحرب الباردة، وانما يمكن اعتبارها كمجرد صدى لهذا الإرث اكثر منه صراعا حقيقيا على الوجود، "إما نحن وإما هم". يقتصر في واقع الأمر على إقامة نوع من التوازن بين مناطق النفوذ، وكرد فعل من جانب روسيا في حقيقة الأمر على الهجوم الأميركي المتمثل بتطويق روسيا من أوكرانيا، وصولا الى نشر الحلف الأطلسي الدرع الصاروخي على حدود روسيا في أوروبا الشرقية.
وهو رد فعل من جانب روسيا تغاضت عنه أميركا، باعتبار ان سورية لا تمثل هنا جائزة كبرى، ومن الأفضل توريط روسيا بها لتحمل مشاكلها بدلا من ان تحمل أميركا مشاكلها. وهي نظرة أوباما بالأساس في التردد إزاء التدخل العسكري المباشر في سورية.
اما في الأزمة الكوبية فإن التمدد السوفييتي على الحدود الجنوبية لأميركا، فقد كان يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي وللمصالح الاستراتيجية في القارة الأميركية الجنوبية، من انتقال عدوى الشيوعية عبر كوبا الى ما كان يعتبر حديقة أميركا الجنوبية او جمهوريات الموز التابعة لها. ولذا لم يكن الوضع يسمح بالتهاون مع هذا الاختراق الروسي حتى لو أدى الأمر آنذاك بنشوء حرب نووية.
3- وهكذا في غياب مثل هذه المصالح الحيوية والمباشرة لأميركا في سورية، وغياب او انعدام المعادلة الصفرية بين الطرفين، بحيث يبدو ما نكسبه هناك هو خسارة لكم وبالعكس. وفي ظل السيولة الدولية وانتفاء الاستقطاب الحاد الذي ميز الحرب الباردة، مع ما يعنيه ذلك من هيمنة البراغماتية السياسية على العلاقات الدولية الراهنة. فقد شهدنا كيف ان فرنسا وكذا المبعوث الأممي الى سورية استيفان ديمستورا، يمكن ان يبادرا الى إيجاد هذه المخارج لدفع الطرفين للتوصل الى هذه التسوية الوحيدة، والتي باتت من شبه المسلم بها أي التسليم بالنفوذ الروسي الأوحد على سورية.
فهل نقترب الآن من حسم الصراع على سورية ومعه فشل هذه المغامرة المنكودة في محاولة قتل الدولة السورية؟ واذا كان الجواب هو نعم. فإن السؤال الذي يجب علينا نحن الفلسطينيين ان نتوصل الى جواب عليه منذ الآن، هو ماذا عن مصير وشكل الشرق الأوسط ما بعد سيطرة روسيا على سورية؟ اذا كانت الحقيقة ان من يسيطر على سورية قلب بلاد الشام سوف يسيطر على بلاد هذه الشام التي هي الهلال الخصيب؟ وما هو أثر ذلك وتداعياته او معادلة الفرص والمخاطر التي ينطوي عليها هذا التحول بالنسبة لنا؟ وماذا سيكون عليه شكل الاصطفافات او التحالفات الإقليمية القادمة او ربما الحروب الإقليمية؟.
ان الخبر الجيد في كل الأحوال هو ان الأزمة السورية تقترب اليوم من نهايتها، واذا كان ما يشي في التحرك الفرنسي على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية كما السورية، عبر الوساطة التي يقوم بها منذ الأمس وزير الخارجية الفرنسي بين واشنطن وموسكو، باستعادة دور محوري لأوروبا لينتقل الى الصفوف الأمامية. فلعلنا نعود الى استحضار الصورة الأولى أو الأصل من الصراع الأول والمبكر على تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط العام 1840 حين برز ما يسمى بالمسألة الشرقية، ولكن مع اختلاف واضح في توازن القوى في زمن قسطنطين بازيلي الدبلوماسي الروسي الشهير في سورية ولبنان وفلسطين .


