شهدت الساحة الفلسطينية مؤخراً الكثير من القضايا الإشكالية والخلافية، سُمعت على أثرها الكثير من المواقف والتصريحات، المتشنجة والعصبية والمتسرعة والمسئولة وغير المسئولة، وتم فيها تراشق الاتهامات والاتهامات المضادة، وبدا المشهد كله أشبه بمسرحية لعب فيها الجمهور دور القاضي والجلاد وحتى الضحية.
المشكلة هنا أن الكيمياء الفلسطينية، السياسية منها والثقافية، تميل حقاً إلى الصوت العالي، والشعار الكبير، والسقف الذي لا يُطال، وأشعر بكثير من الأسف أن بعضنا لا ينتبه لأهمية كلامه أو تصريحاته، ليس من منطلق توقيتها أو مكانها أو ظروفها أو الجمهور الذي يستمع إليها.
وأشعر بالأسى والأسف أن أقول أن الإشاعة والنميمة والخبر الكاذب أو الناقص أو الاعتماد على المشافهة أو التأثير بالآخرين وآرائهم أو الاعتماد على أول رأي نستمع إليه، أو التأثر بما يقول الإعلام، هي كلها مميزات لبعض ما نرى ونسمع.
لهذا كله، ارتأيت أن أبتعد قليلاً، لأشاهد وأتأمل وأُقيّم، حتى أستطيع التمييز بين الألوان والخنادق والمواقف وحتى البنادق والبيادق، ما أُريد أن أقوله هنا أننا، كفلسطينيين، سلطة وفصائل ونخباً وجمهوراً، نبدو كلنا في كل ما يجري، وكأننا الطرف الأضعف، أو الساحة التي يمكن "للكبار" أن يُجروا تمارينهم وتجاربهم فيها، لذا يبدو الأمر الآن، وكأن الفلسطيني عليه أن يدفع ثمن الفشل والهزيمة، وأن يكون كبش المرحلة، أو اضحية الخوف والاحباط، وحتى أكون أكثر وضوحاً، فإن الإقليم الذي نعيش فيه الآن، وبعد أن أسقط كثيراً من دعاويه القومية والدينية، وينكشف عارياً وخائفاً ووحيداً، لا يجد غيرنا ليتقدم به قرباناً على مذبح التحالفات الجديدة التي يفرزها الواقع المخيف والمحير والمعتم.
ولكن، ورغم ذلك، بالغنا في الأمر أم لم نبالغ، فإن من الخطأ أيضاً إدارة الظهر أو الحَرَد أو التشنج أو فقدان القدرة على الإبصار والإبحار، فهذا إقليمنا وهذه شعوبنا، وهذا واقعنا وهذا تاريخنا ولحظتنا، ولأن الأمر كذلك، فإن من المفيد والمناسب أيضاً، الوقوف بصبر وعناد على خطنا الأحمر وثوابتنا المقدسة، تحرير أرضنا وتحرير شعبنا وإقامة دولتنا، كثمن أول وأخير لأي خطوة قد يتخذها هذا الإقليم في الحاضر أو في المستقبل، وليكن ذلك بمثابة المحرم السياسي والديني والأخلاقي لأي تحرك، نحن، شاء الناس أم أبوا، نحن فقط الذين نقدر على منح شهادات البراءة لأي ولكل تحرك، نحن القادرون فقط على تقديم الخلاص الأبوي لكل سياسة مشوهة أو ضارة أو مجزوئة، وبهذا المفهوم فنحن شعب كبير وقوي وقادر، لا يمكن لأي قوة في الدنيا أن تتجاوزنا، فنحن أكبر من الإفناء أو الإقصاء، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن بيتنا الفلسطيني الآن، ليس في أفضل حالاته ولا أنصع صوره وآياته، فالانقسام والجدل والتوجس هو سيد المشهد كله، وسبب ذلك كله برأيي هو فشل سياسات المجتمع الدولي الذي يريد حل قضيتنا برؤية ليبيرالية لا تعترف بأحلامنا الكبيرة وحكاياتنا الأبدية، رؤية تساوي بين الجلاد والضحية، وتجعل من الوطن عقاراً يمكن تقاسمه، وكذلك فشل سياسات الإقليم العربي الذي لم يستطع أن يفرض أياً من شعاراته التي رفعها لأكثر من خمسين سنة أو يزيد، ولهذا، فإن الفشل والتردد وغياب النوايا الطيبة وقوة المحتل، كل ذلك ينهار علينا مرة واحدة، ولهذا، من الطبيعي أن نختلف ونتجادل ونتهم بعضنا بعضاً، فلا يمكن للبيت الفلسطيني أن يتوحد في إقليم متناقض، وفي سياسة دولية تنافسية، وضمن انغلاق الآفاق وغياب الإنجاز، وليس هذا تسويغ للظاهرة التي نحياها الآن بقدر ما هو تفسير لها، فأنا ضد الانقسام وضد الاختلاف، على الأقل في مرحلة النضال من أجل الحرية.
على هذه الخلفية، نفهم ردود الأفعال الغاضبة التي عبّر عنها بعض النخب أو بعض الجمهور على مشاركة الرئيس محمود عباس في تشييع جثمان شمعون بيرس، ومن حق هذا الجمهور أن يغضب وأن يعبر عن نفسه، فالميت لم يكن قديساً ولم يكن الأم تريزا بالنسبة للفلسطينيين، بل كان هو من ضيق على الفلسطيني أرضه وحياته وفضاءه، ولكن الرئيس محمود عباس من جهة أخرى، باعتباره يمثل الضحية الفلسطينية خلال هذا القرن، وباعتباره رئيساً للشعب الفلسطيني، يرى من موقعه ما لا يرى الجمهور، ويحسب بمسطرة أخرى، قد لا تكون جماهيرية أو شعبوية، وبغض النظر عن الحدث الذي من حقنا أن نختلف عليه، فنحن جميعاً نؤمن بأحقية التعبير، إلا أن ردود الأفعال عكست العصبية التي نعرفها في الكيمياء الفلسطينية، وعكست التسرع، وعكست الرغبة في الاختزال والتثبيط، وعكست حالة الانقسام على أوسلو وكذلك الانقسام الذي مر عليه عشر سنوات، وعكست ميولنا لأن نتحول بسرعة إلى قضاة وجلادين وجمهور في آن واحد، وكأن المحكمة لا يوجد فيها غيرنا، لنتأمل قليلاً، لنهدأ أكثر، ولننتظر، فإن غداً لناظره قريب، أقول ومن كل قلبي، إن سرعة الاتهام بالتكفير والتخوين والتفريط، انفعالية مرضية من نوع ما، ألم يكفنا من التجارب والدم ما يجعلنا أكثر حكمة وروية؟!


