من المهم القول ثانيةً إن حلاق لا يقول ما يقوله سيد قطب، مباشرة ونصاً وتنظيراً، لكن أي قراءة "أصولية" ومتأنية لكتاب حلاق تصل بالقارئ إلى نفس المحطة "القطبية". ذلك ان ثمة فرضية صارمة في نص حلاق تكاد تنفي بالمطلق وجود اي بعد أخلاقي او قيمي يستحق ان يُذكر في تجربة "الدولة الحديثة"، وهي فرضية غير موضوعية وغير تاريخية. على كل علاتها الكثيرة تقدم الدولة الحديثة في الحالة الغربية نموذجاً معيارياً فيه أقدار كبيرة من القيم الأخلاقية مثل المساواة، والحرية، والعدالة، والكفاءة في العمل، والمراقبة، والشفافية، والمحاسبة، وكلها قادت إلى نجاح المجتمعات الغربية وتفوقها على غيرها، رغم عدم التمثل الكامل بها. لو لم تكن هذه هي حال مجتمعات الحداثة الغربية وما أبدعته من نجاحات بسبب تكامل منظوماتها البراغماتية والفكرية والقيمية لما وجد وائل حلاق نفسه يبدع في واحدة من الجامعات التي انتجتها الحداثة الغربية، كولومبيا. وأيضا لما وجد مئات من مفكري نقاد الحداثة والغرب انفسهم يعيشون ويكتبون وينتجون وهم في قلب "معبد الحداثة" الذي يدعون إلى هدمه.
ليس صحيحاً أن الفرد الذي تُنتجه "الحداثة" ليس إلا مادة مصمتة خالية من المشاعر وتلهث خلف المصلحة المنفعية وحسب، وهذا نقاش يطول فعلاً. إطلالة سريعة مثلاً على نتائج المسوح السنوية للمجتمعات الاكثر عطاءً في العمل الخيري (world giving index) ترينا ان المجتمعات "الحداثية" تسيطر على غالبية المراكز العشرة الأولى، التي ليس بينها إلا مجتمع إسلامي واحد هو ماليزيا. ولا يعني العمل الخيري هنا هو مجرد التبرع المالي، حتى لا يُقال إن المجتمعات الغربية هي الأكثر غنى، لهذا فمن المتوقع أن تكون الأكثر تبرعاً، بل إن العمل الخيري يتضمن تقديم المساعدة للغريب، ومقادير العمل التطوعي خلال العام. الأكثر دهشة في نتائج مسوح 2015 ان سيريلانكا تحتل المرتبة الثامنة في قائمة المجتمعات الأكثر عطاءً، بينما تختفي كل الدول العربية التي تستورد خادمات من تلك الدولة.
إذا صوبنا النظرة إلى التجربة التاريخية وقارنا بين ما ينتجه الواقع المُعاش حالياً في الغرب فردياً او جماعياً، وما انتجه واقع الحكم الإسلامي العثماني الذي يراه حلاق كآخر تمظهر لتسيد المنظومة الأخلاقية الإسلامية القائمة على الشريعة، حيث النموذج المُبتغى او ما هو قريب منه، فلن تكون الصورة افضل. تحت الحكم العثماني العتيد وطويل الأمد لم تنتج المجتمعات الإسلامية إلا أفراداً خاضعين للسلطة مستسلمين لها، ولم نعرف عن إبداعات خارقة، ولا علوم، ولا قريباً من ذلك، وكأن تلك المجتمعات أصابها عقم شامل عن إنتاج أفراد مبدعين في كل اي من المجالات. جماعياً، ساد غياب مُدهش لقيم التضامن الجماعي والثورة على الاستبداد داخلياً، وحتى مناصرة الشقيق خارجياً، كما في حالة التخاذل العثماني عن مناصرة مسلمي الأندلس عشية سقوط دولتهم أمام تحالف الممالك المسيحية، ومثلها السياسات التخاذلية تجاه الشمال الإفريقي من ليبيا والجزائر إلى المغرب وسهلت احتلالها من القوى الأوروبية.
في واقع العالم "الحداثي المادي" لدول ومجتمعات غربية كثيرة هناك حركات ومنظمات حقوقية وقيمية لا تحصى، أهدافها النضال ضد سياسات الحكومات الغربية المتوحشة سواء في السياسة او الاقتصاد أو البيئة. في عواصم الغرب، في لندن وباريس ومدريد وواشنطن خرجت المظاهرات المليونية المعارضة لحرب غزو العراق واحتلاله سنة 2003 ولم تشهد عواصم البلاد الإسلامية جزءا ولو يسيراً مقارنة بتلك المتظاهرات. هل كانت هناك ثمة قيم أخلاقية إنسانية مشتركة انطلق منها المتظاهرون آنذاك وآنئذ في مناسبات مشابهة، ام كانوا مجرد وحدات مادية مُصمتة تتحرك بلا هدف ولا مشاعر؟ ملايين الغربيين الذين خرجوا ويخرجون في شوارع بلدانهم معترضين على سياسات حكوماتهم هم نتاج الحداثة الغربية وقيمها وليس اي منظومة قيمية اخرى.
بعيداً عن اللقاءات الفكرية والمصادفات التي يوفرها هذا الكتاب بين سيد قطب ووائل حلاق، يطرح مجموعة من الأفكار التي تستحق نقاشات موسعة لكن ضيق المساحة لا يسمح بالتعرض لها كلها، لكن تتقدمها مسألة نقد الحداثة وتفكيكها. ربما تكمن قوة الحداثة كمنظومة غير صارمة من الأفكار والمقاربات بكونها ليست ايديولوجيا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تعقلها كسيرورة دائمة مفتوحة على التغيير وذات بنية نقدية دائمة للذات. بمعنى آخر، من أهم ما جاءت به الحداثة هو فكرة النقد المستمر، فلئن نقدت ابتداءً ما وجدته من سيطرة للكنيسة على البشر، ونقدت الواقع الاجتماعي والسياسي، ونقدت الواقع الديني، ونقدت الإقطاع والاستغلال الاقتصادي، وقدمت حلولها البديلة، فإنها سرعان ما أخضعت بدائلها للنقد الصارم أيضاً وفككتها. يمكن رؤية الحداثة ونقد الحداثة كتوأم سيامي ولدا معاً ولم ينفصلا، وهنا تكمن في الواقع نقطة القوة الكبرى للحداثة، أي ان نقدها منطلق من كينونتها وهو جزء اصيل منها. وهذا النقد قد يفكك الحداثة كلها جملة وتفصيلا ولا يُبقي فيها حجرا على آخر، ذلك انه لا مُقدسَ في المشروع الحداثي مُحصن ضد النقد. وبهذه الميزة الكبرى تختلف الحداثة عن أية أيديولوجية بشرية أو عقيدة دينية أو أية منظومة فكرية اخرى، ذلك ان الأيديولوجيات والعقائد الأُخرى وان سمح بعضها للنقد الذاتي او انطوى عليه فإنه لا يسمح له بالوصول إلى المكونات الجوهرية وربما المُقدسة للبنية الأيديولوجية والعقدية، فالمسموح هو نقد الهوامش لا الثوابت. عبقرية الحداثة تكمن في أن لا ثوابت فيها سوى ثابت النقد، ولهذا فإنها تعيد تجديد ذاتها تحت معاول النقد الذي يصقلها اكثر، فيما العفن يصيب غيرها لأنها مهجوسة بالحفاظ على ذات مصمتة بعيدا عن النقد.
واستطراداً في نقاش حلاق في نقاشه للحداثة السياسية، ليس من التجاوز القول بأن حلاق قد بالغ فعلاً في توصيف وحشية الدولة الحداثية، وحاد عن الموضوعية في انتقائيته للآراء والطروحات التي تهاجمها. هناك كثير من الطروحات الحداثية تجادل بأن الحداثة السياسية هي التي قلمت وحشية الدولة التي عرفتها البشرية، وحولت الافراد من "رعية" إلى "مواطنين". وان مركزية الدولة لا تصل إلى مرتبة القداسة الموصوفة في كتاب حلاق، بل تظل تعتبرها أداة لخدمة مواطنيها. وأقصى ما يمكن اعتباره طرحاً موضوعياً هنا هو القول بأن تمظهر الدولة الحداثية أخذ طيفاً وأشكالاً مختلفة، تبدت في حدها النتشوي (النازي، لاحقاً) الأقصى الدولة ذاتاً مقدسة وصارت هي الغاية الأسمى، لكن في بقية أشكالها الأُخرى وطيفها وتجسدها المُتسع والمُتعدد كانت اقل قسوة واكثر ليونة وتواؤماً مع سياقات متنوعة. مثلاً، هل ينطبق تحليل حلاق للدولة الحداثية وتوصيفها بالتوحش على الدول الاسكندنافية الراهنة، وهل هذا ما يراه مواطنوها؟
الأمر الآخر المهم، والمُهمش إلى حد ما في نقاش حلاق، هو أن فكرة الدولة الحديثة لم تتأسس على الضد من الأفراد ولمواجهتهم أو منافستهم في السلطة أو النفوذ، والانتقام منهم، كما يخلص إلى ذلك قارئ حلاق. بل تأسست وتطورت وتبدلت وهي تواجه تحديين، الأول هو الأعداء الخارجيون والحروب والصراعات التي كانت تستهدف الأفراد وتطحنهم. وهنا كان هدف الدولة الوصول إلى تنظيم العلاقات الدولية وفق أنظمة جديدة اكثر مما أرادت قولبة الأفراد في سياقها، وعلى ذلك فإن ما انعكس على الأفراد جراء هذه السيرورة الطويلة كان نتيجة وليس هدفاً. والتحدي الثاني هو الاستبداد الداخلي الذي كان متجسدا في تحالف الكنيسة مع الإقطاع، ثم تطور في أشكال امبرطورية، او برجوازية، او حتى حداثية استبدادية. في مرافعة الإدانة القاسية التي يقدمها حلاق بضراوة نضالية ضد فكرة "الدولة الحديثة" نرى أن هذه الدولة قد قامت وتمأسست لهدف واحد وهو قمع الفرد وإخضاعه، وليس الدفاع عنه ضد عدو خارجي واستبداد داخلي. على ذلك فإن مفهوم التضحية من قبل المواطنين والذي يسترذله حلاق جاء في هذا السياق، سياق الدفاع عن النفس والوطن والدولة معاً، وليس حصراً للدفاع عن الدولة وكأنها كيان مُصمت علوي لا علاقة له بالأفراد (المواطنين).
كل ما ذكر أعلاه لا يقلل من أهمية هذا الكتاب وموسوعيته. ليست كل الكتب مُستفزة للقراءة، واقل منها تلك التي تستفز كتابة مراجعة مطولة فيها، وهذه القلة هي التي تُساهم في إثراء النقاش الفكري والجدل الإيجابي. وكتاب حلاق بالتأكيد واحد منها. أهمية الكتاب، وهي مفارقة فعلاً كبيرة، تأتي من برهنته على أمر لم يكن احد أهدافه: وهو استحالة خلط الدين بالسياسة. الكتاب يثبت أن لا مكان لشيء اسمه دولة إسلامية في الزمن الحديث، لأن الدولة الحديثة تتعارض مع الحكم الإسلامي. وفي نفس الوقت فإن قيام الحكم الإسلامي يستلزم شروطاً لا تقل استحالة عن مواءمة الدولة الحديثة مع الإسلام، وهي شروط تحوم حول إعادة إنتاج الظروف التي توفرت لذلك الحكم في الماضي، كما يراها المؤلف. نحن إذن بين استحالتين إسلاميتين وحداثة تقف على تخوم فشلهما بكونها النجاح الوحيد.
khaled.hroub@yahoo.com


