طلب بيدبا الفيلسوف الإذن بالدخول على الملك دبشليم فأذن له ، كان الملك يجلس على عرشه ، و يحيط به حرسه الشديد و ترتمي تحت قدميه الجواري ، فنظر الملك دبشليم إلى بيدبا ، بعد أن طال صمته و لم يطلب مكرمة أو يحنى هامة متذللاً : نظرت إليك يا بيدبا ساكنا لا تعرض حاجتك ولا تذكر بغيتك !!
فبدأ بيبدا حديثه بإبتسامة الواثق ، و بنبرة صوت هادئة منخفضة ، في محاولة منه لتقديم تمهيد حكيم ، يا أيها الملك ، منذ عشر من السنين أقمت فيما خُولت من المُلك وورثت بإرادة الشعب ، من الأموال والجنود ، وكنت قد حلفت و أغلظت لتقيمكن العدل بعد فساد طال البلاد و العباد ، و أعلنت أنك ستصلح و تغير ، و تغسل و تطهر فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك ، بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية ، وأسأت السيرة ، وعظمت منك البليّة كل هذا و أنت تُخرس الأنفس و تُلجم الأفواه بتلويحك بالراية الإلهية و حكم الواحد العدل ، و أعلنت أنك الراشد و أنك أنت المجاهد المقاوم و على خدمة دين الله قائم ، وكان الأولى بك أن تسلك سبيل أسلافك . وتقفو محاسن ما أبقوه لك ، و تترك المفاسد ، و تتوقف عن حفرٍ تحت الأرض و ظلمٍ فوق الأرض ، تُحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير و تبتعد عن شرق و غرب ، و تلوذ باهلك و لحمك و دمك ، و تترك حلم الفشل و تجارة الدم ، و تنظر إلى أرضك و ترابك السليب ، خيراً من النظر إلى فرس وعجم أو روم ، عارضاً نفسك بديلاً ، قابلاً ما يراه قومك مستحيلاً ، و تنهى النفس عن الحقد و الكره لكل من خلف لك رأي وتُحسن العمل الذي يبقي بعدك ذكره ، فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والأمنية ، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراه والرفق ، فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك : فلم أتكلم بهذا ابتغاء عرض تُجازيني به ، ولا التماس معروف تكافئني فيه ، ولكني أتيتك ناصحاً مشفقاً عليك.
جُن جنون دبشليم لأول وهله وأمر بقتل وصلب بيدبا ، ثم أحجم عن الاعدام وقرر استبداله بالحبس وتقييده . وعندما علم تلاميذ بيدبا بما حل بأستاذهم هربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار ، و على مدى سنوات و سنوات ، دق دبشليم كل باب ، و باع كل موقف ، ثبت حيناً و زاغ أحياناً ، و سَوَّلت له نفسه الأمارة بالسوء حسن تصرفه هذا و أقنعته بأنها عظمة الساسة و حنكة الأذكياء و مبلغ الدهاء ، أن لا تلتزم بوعد و لا تفي بعهد ، و أن تتقلب بين الأقطار تابعاً ووكيلاً ، تاجراً سئيلاً ، تحلل السرقة والتهريب ، و تخدم الغريب و تتنكر للقريب ، تتدخل في شان الجار و تنسى خدمة أهل الدار ، فآلت كل خططه إلى دمار و نار بعد أن شغل الناس بأوهام لقبها بكل ما في اللغة من فخار و إستكبار ، ولكن دبشليم سهر سهراً شديدا فطال سهره ، ونظر حوله و ما آلت إليهِ أحوال بلده ، و الخوف و الحيرة و قلة الحيلة و اليأس الذي تملك رعيته ، ومد الى الفلك بصره ، وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب ، فأغرق الفكر فيه ، فذكر عند ذلك بيدبا ، وتفكر فيما كلمه به ، فارعوى لذلك ، وقال في نفسه . لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف ، وضيعت واجب حقه ، وحملني على ذلك سرعة الغضب.
وأرسل دبشليم الملك من يحضر له بيدبا من السجن : يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفا إلا جئت به . وفعل بيدبا ذلك ودبشليم يستمع متأثرا : يابيديا ، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي ، وأنا ناظر في الذي أشرت به ، وعامل بما أمرت ، فقد وضحت الرؤية ، و بانت الصورة ، و من ظنناه أسداً ، وقع في ورطة دئاب الغابة ، و من ظنناه آية ، إكتشفنا أنه ليس إلا سحراً أسوداً ، من الآن فصاعداً لا إنفصام و لا إنقسام ، و سنقبل بحل بطئ ، يعيد وصل المقطوع ، و جبر المكسور ، و لنبدأ بإصلاح البلد ، و البدليات ، و خدمة الناس ..
وحين سأل الملك دبشليم بيديا عن الأجر الذي يطلبه ، لم يزد أن قال، يأمر الملك أن يدون كتابي هذا ،و ليكن عهد شرف و ميثاق ، ويأمر بالمحافظة عليه ، فإني أخاف أن يخرج من يطعن فيه أو يأول معانيه ، فيتناوله أهل فارس إذا علموا به ، أو يتصدى له أهل البداوة و الجفاوة ، فيتنكروا لك أو لي ، و يتآكروا علينا ، لكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن ، فالذي حصل أن أن ملوك الروم ، و عباد عجل سيناء ، ومعهم كسرى أنوشروان جميعهم لما علموا بخبر كتاب كليلة ودمنة لم يهدأ لهم بال ، حتى بعثوا برزويه الطبيب سفيرا ،و إعتمدوه مبلغاً للراسلة ، و حملوه الهدايا و أطنان الحلوى و خطط التطوير ، و خارطة الميناء ، و دفعات المال بدأت تقطر على عمال و موظفي دبشليم الملك ، ومن هنا يبدأ الفصل الخاص بحكاية تفاصيل الخطة التي وضعها برزويه طبيب كسرى أنوشروان ، و عميل الروم و غيرهم ، ليتمكن من الكتاب العهد و ميثاق الشرف ، وبدأ في اللعب براس الملك دبشليم ، حتى تمكن منه ، فغنقلب على وعده ، و تنكر لميثاق الشرف ، و بدأ يتخلص من إلتزاماته ، فسجن بيدبا مرة ثانية ، و نكل بمريدي و تلاميد بيدبا ، بين مطاردة و تضييق و إعتقال .. و كلف قضاته بالبحث عن اي ثغرات ، تخلصه من ما ألزم نفسه به ، و قد كان .. وعادت البلاد مرة ثانية ، تغرق في حلوى الروم و الفرس ، و عاد برزويه يعشش في راس دبشليم .. و عاد العباد في البلد المكلوم ، يعلكون الحلوى و يتذوقون المر ..


