وظهر الرئيس باراك أوباما في هذا المشهد الجديد من دراما الشرق الأوسط، والذي كان حتى الامس القريب مغضوباً عليه من لدن نتنياهو وزمرته الحاكمة، كما لو أنه المنعم الطيب والكريم الذي اعطى إسرائيل بسخاء نادر كما لم يفعل أي رئيس اميركي سابق. فبدلاً من الثلاثة مليارات حصة إسرائيل الحالية من المساعدات العسكرية، زاد أوباما قيمة هذه المساعدات لتصل الى 38 مليارا خلال السنوات العشر القادمة من العام 2019 وحتى العام 2028. وهلل نتنياهو وحاشيته لهذا الإنجاز غير المسبوق وكأنه يقول هل رأيتم؟ وكان هذا السؤال الضمني معطوفاً على سلسلة الأزمات المنشودة التي واصل افتعالها الرجل مع سيد البيت الأبيض.
بالحق اذاً، لماذا ظهر أوباما في هذا المشهد وكأنه بدلا من معاقبة نتنياهو يكافئه بهذا الامتياز؟ وقد يكون الجواب انها دواعي الانتخابات الرئاسية الاميركية بعد شهرين، وعجل من توقيع وإعلان هذه المكرمة الإمبراطورية الآن، مرض السيدة كلينتون المفاجئ الذي يهدد بالاطاحة باحلام الحزب الديمقراطي الفوز بالرئاسة، واللوبي اليهودي لاعب معترف باهميته في هذه الانتخابات. وهذا ما دعا دونالد ترامب الذي تفاخر بوضعه الصحي الأسبوع الماضي التهديد من انه اذا لم يصبح هو الرئيس فعلى إسرائيل السلام.
في عامها التاسع والستين وهي تخفي حقيقة وضعها الصحي الذي تم اكتشاف أمره، بانهيارها المفاجئ في حفل تأبين ضحايا 11 أيلول. ربما بدت اقل حيوية مقارنة بشمعون بيريس الذي يصارع الموت منذ أيام حين وقع قبل ثلاثة وعشرين عاماً مع أبو مازن على اتفاقية أوسلو، وكان يبلغ في ذلك الوقت من العمر سبعين عاما. لكنها في العام 1996 وحينما زارت غزة برفقة زوجها الرئيس بل كلينتون، فقد بدت لي في الواقع او على الأقل في المظهر العام على تواضع جم، لا تثير بلباسها البسيط او هدوئها ذاك الفضول المتوقع ان يثيره من كان في مقامها او وضعها، كسيدة أميركا الأولى. وذلك بخلاف زوجها الذي ما ان دخل القاعة تحيط به الهيبة، كان يبدو بقامته ووسامته بالفعل كامبراطور.
لكن هذا الانطباع يمكن ان يكون قاصراً او مضللاً اذا نظر اليه على انه التفسير الوحيد للإعلان عن صفقة المساعدات الأكبر من نوعها في تاريخ العلاقة بين أميركا وإسرائيل، اذا ما نظرنا اليها في التحليل الأخير او المنظور الاستراتيجي الشامل بوصفها جزءاً من الاستثمار السياسي الأميركي في الشرق الأوسط، وليس فقط في امن إسرائيل، كما حاول نتنياهو تصوير الأمر. ونعني بالاستثمار الشامل في الشرق الأوسط باستمرار رؤية الولايات المتحدة الى هذه المنطقة، كمدماك او حجر رئيسي في منظور دورها وعلاقاتها الدولية. وان هذا الانطباع هو ما يسمح لنا بإعادة تقييم هذا الدور الأميركي من جديد بالتقليل من شأن الفرضية القائلة، بان أميركا تتجه الى الانسحاب من هذا الشرق واستبدال هذه المنطقة المليئة بالمشكلات، بالاتجاه نحو الاستثمار في آسيا او في المحيط الهادئ.
والواقع ان ثمة ما يوحي اليوم باستمرار هذا الخط الواصل او الذي يربط بين هذا الاستثمار النوعي، الذي تمثل قبل عشرين عاما بزيارة بيل كلينتون الى غزة، في مواجهة نتنياهو وتحديه لعملية السلام، وبين عقد هذه الصفقة مع الرجل نفسه. وهو ما يطرح السؤال الوحيد الذي يفك غموض هذا اللغز او ما يبدو على السطح تناقضا في موقف أوباما من نتنياهو، وهذا السؤال يتعلق بالثمن من وراء دفع هذا الحجم الكبير من مقدم الصداق.
وإذ كان في وقت حضور بل كلينتون الى غزة ومشاركته في جلسة تاريخية في قاعة مركز رشاد الشوا للمجلس الوطني الفلسطيني، لالغاء بعض بنود الميثاق الوطني الفلسطيني كنوع من تقديم هذا المعجل من الصداق او الهدية لنتنياهو، من أجل جلبه الى طاولة المفاوضات لإكمال ما بدأه رابين بالانسحاب من الخليل. فإن الثمن المؤجل اليوم تحت الطاولة انما هو وبعد تقديم هذا الحافز غير المسبوق لنزع الذرائع من نتنياهو، جلبه مرة أخرى الى العملية السياسية وتغذيته القسرية بما سيفرضه هذا المؤتمر الدولي للسلام، والمواقف غير المسبوقة التي ينوي اتخاذها أوباما لفرض حل الدولتين، وان هذا هو الشق الآخر من الصفقة.
«صفقة لها مذاق مر» كتبت صحيفة يدعوت احرنوت. وبخلاف ما بدا تضخيماً إعلامياً للإنجاز من قبل نتنياهو الذي وصف بالتاريخي والأكبر وغير المسبوق، وهو موقف إعلامي يخدم ما أراده أوباما لتدارك الأضرار التي ألحقها مرض السيدة كلينتون، وسوف يخدم أوباما لما بعد الانتخابات، حين يأتي أوان دفع الثمن بالمقابل وحيث لا شيء مجاناً في السياسة. فقد استمعنا الى فيض من المواقف والتحليلات التي تنتقض او قل تنتقص من قيمة واهمية هذا الإنجاز، وهذه الانتقادات تتلخص بالفرصة التي اهدرها نتنياهو بسبب استفزازاته العدائية طوال الوقت لإدارة أوباما، لتحسين قيمة وشروط هذه الصفقة، والتي جاءت اقل بكثير فيما كان يطلبه نتنياهو نفسه، أي خمسة مليارات كل عام.
ويتضح الآن ان هذه المساعدات ليست «عدا ونقدا» ولكنها مشروطة ومقيدة بشراء السلاح حصرا من الصناعات العسكرية الأميركية، وليس من الصناعات الإسرائيلية، ما سيهدد بإحالة المئات من العاملين بهذه الصناعات الى البطالة. وشرط آخر يقيد إسرائيل بعدم مطالبة الكونغرس في المستقبل بأي زيادات أخرى او تعديلات على شروط الصفقة. وكان أصعب وأقسى هذه الانتقادات للرجل قد جاءت على لسان ايهود باراك وموشي يعالون، وذهب باراك الى حد اتهام نتنياهو بخداع الشعب الإسرائيلي ووصفه بالشخص المتهور وعديم المسؤولية، وأنه ألحق أضراراً خطيرة بأمن إسرائيل.
والراهن ان نتنياهو نفسه في العام 1996 قال ان عرفات لم يفعل شيئا سوى بيعه كلمات، واليوم تراه ان بقي الى العام 2019 على رأس الحكم في إسرائيل وهو أمر مستبعد، فترى ماذا سيفعل هو او من يخلفه بهذه الخردة الجديدة المضافة الى ترسانة هائلة بالأصل من الأسلحة الحديثة والمتطورة؟ وذلك في شرق أوسط لا يعرف أحد ماذا سيكون شكله بعد عام واحد؟ وإذا كان أوباما اقرن بوضوح الإعلان عن الصفقة والتوقيع عليها، بالتصريح عن إصراره العمل على تنفيذ حل الدولتين.
إن المسألة واضحة اذا، اذا كان فرض حل الدولتين في المؤتمر الدولي القادم ومجلس الأمن، سوف يترافق او يمهد تلقائياً للتسوية الإقليمية والسورية على وجه الخصوص، في مرحلة ما بعد الاتفاق الأميركي الروسي لإنهاء الأزمة السورية، والتحضير لترتيبات الشرق الأوسط ما بعد هزيمة داعش في الموصل والرقة. وهنا في سياق هذا التحليل يمكن ان نضع خطاً تحت ما قيل إن إطلاق النار مؤخراً على الطائرات الإسرائيلية بقرار من الأسد، إنما جاء بضوء أخضر وغطاء من روسيا.
فرضية اخرى اذن تبقى، اذا كان هذا السلاح غير ممكن استخدامه في المستقبل ضد سورية المغطاة بتوازن استراتيجي على الأرض، بقوة التواجد العسكري الروسي. وهذه الفرضية هي اذاً إيران ولكن في اطار من توازن في استخدامه او توظيفه، تتحكم به أميركا وحدها وليس إسرائيل. وهذا التوظيف الأميركي له هدف وحيد هو إبرام الصفقة الكبرى مع روسيا على خريطة التوازن والنفوذ المستقبلي على الشرق الأوسط الجديد، بمعزل عن الأطراف الإقليمية نفسها. لإسرائيل والسعودية توازن السلاح في مواجهة إيران، ولأميركا عقد الاتفاقات او التفاهمات والتسويات.


