من المحال ان تجد مجتمعاً ما ومهما تدنى مستوى تطوره ان يخلو من أي شكل من اشكال التعبير الجمالي في الغناء او الموسيقى, خاصة وانهم لا يزالان يمثلان ظاهرة (سوسيولوجية) تجد فيها الشعوب خصائص تميزها عن غيرها, حيث يعتبر الفن من اقدم المظاهر المعرفية واكثرها شيوعاً في الحياة الانسانية, ويلعب دوراً هاماً في تشكيل الذوق العام، ومن المتعارف عليه فى تاريخ تلك الشعوب أن الأغاني الشعبية هي مرآة للتراث والثقافة التي تعبر عن الماضى والمستقبل, والحاضر الذى تجسد خلالها القيم الاجتماعية والثقافية.
و شكلت التجربة الفلسطينية خصوصية ذات مضامين كفاحية وإجتماعىة, ترجمت مزيجاً من القصص والحكايات والبطولات وقصائد الحب والنضال الدالة على التراث وإستمرار حالة الدفاع عن الأرض والإنسان, والقضية, والهوية والتى لازالوا يحافظو عليها بكل قوة فى مواجهة سرقتها و اندثارها.
الاصل ان الفن الشعبى هو فن يعبر عن واقع الناس وذات دلالات ومعانى ومؤشرات يقاس بها الاوضاع والظروف السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والانسانية وغيرها التى يعيشها المجتمع فى غاية من التعقيد, والتى عادة ما تكون بيئة خصبة لبروز مثل هذا النوع من الاعمال وارضية لاتساع حالة التهكم والسخريه بمجرد اصابة المجتمع بحالة من الملل والركود من أداء الساسة والحكومات والاحزاب كعلاج موضعى لتناول مشاكله اليومية فى محاولة لنسيان بعض من اوجعه ومشاكله عبر التلقيحات, والنكات والأغاني, سواء فى صورة مكتوبة او اغنية او مقطع فيديو وخلاف ذلك من طرق الاعلام, والاعلام الجديد،
لكن بعض هذا الفن انحرف فجأة دون سابق انذار عن مساره وهبط هبوطاً سريعاً إلى أسفل درك الفن بعد أن ركب موجته بعض الهواه الذين لم يتشبعوا من التجربة الفنية والتراثية السابقة, فلم تعد في الأغاني الشعبية قصة ولا حكاية وتحولت إلى صراخ وضجيج مع موسيقى صاخبة وكلمات هابطة لا تحتاج لشاعر، بل مجرد ترديد للكلمات السوقية التي تأتي على شكل موضات موسمية, يتنافس بها البعض, معتقدين بأنها شكل من اشكال الفن والموهبة الخارقة المقطوع وصفها بصورة ارتجالية عشوائية.
ظهور بعض الأغاني العشوائية الهابطة تشكل خطراً على ثقافة الأجيال المقبلة، بعد عصر ذهبي للاغنية الوطنية والتراثية التى تعبر عن هويتنا الفلسطينية المتجذرة وشكلت رافدا للشعوب العربية والدولية وحافظت على الذوق العام.
إن استمرار هذه الظاهرة, مع غياب تصنيفها باعتبارها اعمال فنية ذات دلالات نافعة وعميقة, او انها غير مجدية, او خطيرة على القيم والموروث الثقافى, تقتضى المسؤلية من جهات ذات العلاقة بسرعة القيام بالبحث والتمحيص فى دراستها, وهل هى غمامة صيف عابرة مرهونة بالواقع المعاش ام هى حالة تتنامى وتتسع فى المستقبل تتطلب المحاربة او التوجيه او تصويب وتعديل مساراتها ؟ بما ينسجم مع واقع المجتمع وبنيته, واستعادة مكانة الاغانى الشعبية والتراثية وحمايتها .
بات الجمهور والنقاد يتّهمون هذا النوع من الغناء بالترويج للإسفاف والابتذال، والتراجع معتبرين أن من يقدمها لا يملكون الحد الأدنى من الموهبة، في حين تجذب بعض المراهقين والشباب الذين يتهافتون على حضور فيديوهاتها وحفلات مؤديها, فى وقت يتحمل الجمهور نفسه مسؤولية انتشار مثل هذه الأغاني داخل المجتمع,كما أن بعض مؤسسات الانتاج الاعلامى والفنى تخلت عن دورها وتفرغت لجمع الارباح ، رغم أن القانون ينص على مسؤولية الارتقاء بالذوق العام والحفاظ على المهنة، غير أنه لا يتم تطبيق هذه المواد، كما تتحمل بعض القنوات والمواقع الاعلامية بالمشاركة في صناعة الأغنية الهابطة والترويج لها من خلال الاستعانة بالصبية الذين يتغنون بمثل هذه الأغنيات, اضافة لافراد مساحات كبيرة لترويج لهذه الاعمال غير آبهين لخطورتها
كما تكمن المشكلة في اعتماد المنتجين على مؤدين غير موهوبين لا يتعدى الذوق العام بطبيعة الحال وثمة حقائق موضوعية في الحياة تحكم الذوق والجمال ولو لم يكن الناس يتفقون إلى حد بعيد على معايير وقواعد موضوعية ، لما كان للنقد في الفن والأدب قيمة ، ولا كان لتعلمهما لصقل المواهب أية أهمية ، ولو لم تكن ثمة قواعد موضوعية تحكم الذوق لجاز للشخص أن يرى الضجيج على أنه جميل . وفي ضوء وجود قواعد ومعايير موضوعية يجوز لنا أن نحكم على ذوق ما بأنه وضيع أو رفيع، راقٍ أو متدنٍ ، ويجوز لنا أيضاً أن ندعو إلى تربية الذوق السليم ، وندعو إلى الانتباه إلى مواطن الفساد في الذوق العام ونسعى إلى تغييرها ، وان نقول بأن للإعلام دوراً في إفساد الذوق العام أو إصلاحه ، والانحدار أو السمو به , وفي كل الأحوال فإن الارتقاء بالذوق العام هو ارتقاء بالثقافة وبالمستوى الحضاري ، كما أنه ينعكس ايجابياً على السمو بالأخلاق وأساليب التعامل مع الناس .
ان انتشار هذه الأغنية وسريانها في المجتمع كالسرطانات الخبيثة، يدفعنا للحديث عن الغياب والتراجع الواضح لدور المؤسسات الرسمية والنقابية, مما يستدعى منا اعادة النظر مبكرا فى تلك الاعمال, وضرورة تذليل كل العقبات التى حاصرت وقيدت عمل وتقدم كافة الاتحادات والجمعيات والنقابات الفنية والثقافية المغلقة مع ضيق وتراجع المساحات فى وجه المفكرين والكتاب والادباء والمثقفين والفنانين, كما كان مناط بها على مدار سنوات الثورة الفلسطينية والعمل على ضخ طاقات قيادية ثقافية وادبية وفنية جديدة شابة فى مراكز صنع القرار, واعادة فتح جميع المسارح ودور العرض ومدارس الموسيقى و محاولة فرز واحتواء الحالة العشوئية القادمة و فلترتها وضبطها وفق اصول ومعايير فلسطينية وصولا لحماية الهوية الثقافية والوطنية والعمل على تشريع الابواب لتشجيع جميع الفئات والشباب والطاقات الجديدة والموهوبة على الابداع الفنى والثقافى وحماية تلك الهوية من اى خطر من الاندثار او المس بها والسماح بخدشها..
لسنا ضد الاعمال الفنية الشعبية ولا ندعو هنا لمحاربتها, فالفن الذى يحتوى على مضامين تضيف للمشهد الثقافى والفنى والادبى شى جديد يسهم فى بناء هوية وشخصية المجتمع وعكس مرآة حضارية له وملتزم بمزاجه ومشاعره وهويتة ندعو لحمايته وتوفير كافة سبل النجاح له وتعميمه وتكريمه وتتويجه.
ولكن ما ندعو اليه ان يكون هناك ضوابط لحماية الثقافة العامة والتراث الفلسطينية والهوية النضالية من هذه الارتجالية والعشوائية الاخذة بالاتساع, مع طفرة وسائل الاتصال والاعلام, فمعالجة الاسباب والوقوف على الدوافع لمثل هذه المؤشرات التى حتما ستفضى لحالة (فنية) كارثية فيما لو استفحل وتمدد هذا النوع من الاعمال ووصل عمق اطفالنا وتغلغل فى مجتمعنا واجيالنا سينعكس سلبا على الاغنية الشعبية والوطنية, والمجتمع برمته, فتجربة عشوائية الاغانى الهابطة فى بعض البلدان المجاورة تستحق دراسة الانحدار التى وصلت اليها مجتمعاتها
لا يمكن لطرف دون اخر ان يعتقد بانه بمنأى عن المسؤلية فى اسباب وخطط مواجهة بروز بعض الظواهر السلبية التى تتطلب جهود جماعية كبيرة للحد من العوامل والبيئة والمناخ الذى دفع البعض لمثل هذا الانحراف الذى يستوجب تصويبه واعادته للمكان الثقافى والحضارى الحقيقى والسليم فورا, والا سيدفع الجميع ثمن هذه العزلة, والحصار, والإنقسام وحالة التراجع الفكرى والثقافى.
اياد عبد الجواد الدريملي


